وحدة الوجود - من كتاب جلاء القلوب من الأصداء الغينية للشيخ محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني

 
مسألة وحدة الوجود: 
قال الشيخ الكتاني:ذكر المتكلمون على وحدة الوجود أن هاهنا وحدات ثلاثا:

الأولى منها:وحدة كل موجود على انفراده و معناها أن كل فرد من أفراد الموجودات‏ الظاهرة و الباطنة من حيث هو له من اللّه تعالى وجه خاص يلقي إليه منه ما يشاء لا يشاركه فيه أحد و له منه أيضا وجهة معينة و صفة خصوصة لا تكون لغيره بها يتميز عن‏ غيره من سائر المخلوقات و هذه الوجهة هي حقيقته المختصة به و صفته المخصوصة. قال في«الفتوحات»في الفصل الخامس عشر من الباب الثامن و التسعين و مائة ما نصه:و أما اللّه تعالى فهو مع كل شي‏ء فلا يتقدمه شي‏ء و لا يتأخر عنه شي‏ء و ليس هذا الحكم لغير اللّه تعالى و لهذا له إلى كل موجود وجه خاص لأنه سبب كل موجود و كل‏ موجود لا يصح أن يكون اثنين،انتهى.
يشير إلى هذه الوحدة و إن شئت زيادة بيان لها فقل إنه ما من عين مخلوقة إلا و لها من‏ اللّه خاصية و علامة تميزها عن غيرها من كل ما خلقه اللّه من الأعين من ابتداء الوجود إلى‏ انتهائه كما أن لها منه مادة مخصوصة لا يشاركها فيها عين أخرى،و إن قلنا:إن هذه العين‏ مثل هذه كزيد مثلا مثل عمرو أو هذه الحبة من البر أو غيره مثل هذه فما هي مثلية حقيقية إذ كل واحد منهما لا بد له من مميز يدرك ذلك من خالطه المخالطة الخاصة أو تأمله كذلك أو فتح اللّه عين بصيرته و ذلك المميز هو وجهه المختص به و هو حقيقته‏ الخاصة و صفته المخصوصة فهذه هي وحدة كل موجود.
الثانية:وحدة جميع الموجودات الكونية من حيث جملتها و هي وحدته صلّى اللّه عليه و سلّم و معناها أن‏ العالم كله من أوله إلى ما لا نهاية له منه شي‏ء واحد بالذات أعني نورانيته واحدة و حقيقة متحدة متضمنة لجميع الحقائق و هي نورانيته صلّى اللّه عليه و سلّم و حقيقته المفاضة من الذات العلية فيضانا متحدا بالفيض الأقدس أولا في العلم ثم بالفيض المقدس ثانيا في العين و الخارج و ما لها من‏ التفاصيل و الوجوه و القيود و الاعتبارات و الخيالات العارضة لا يعددها و لا يكثرها كالذات‏ الواحدة الإنسانية فإنها حقيقة واحدة لا يكثرها و يعددها ما لها من الأعضاء و الحواس‏ الظاهرة و الباطنة و إن كانت متعددة،و هذا معنى ما بلغنا عن بعضهم من أنه كان يقرر وحدة الوجود فيه صلّى اللّه عليه و سلّم،و كان بعض أشياخنا ممن جمع بين الظاهر و الباطن يومئ إليها فيقول إذا رأى إنسانا مقبلا عليه أي إنسان كان:مرحبا بالنور المحمدي،حتى صار يلقب‏ بهذا اللقب فيقال له:النور المحمدي.و كان يشير بذلك إلى أن الأكوان كلها إنما هي‏ مظاهره صلّى اللّه عليه و سلّم و أنواره المتحدة بالذات،و إن تعددت بالاعتبارات،و أن وجوده إنما هو بوجوده صلّى اللّه عليه و سلّم و إمداده المستمد من الحضرة العلية التي هي حضرة الأحدية. 
و في«الجامع»لأبي عبد اللّه محمد بن المشري نقلا عن شيخه أبي العباس التيجاني قال: الحقيقة المحمدية هي الكون بأسره فلو رفع الحجاب لم تر إلا الحقيقة المحمدية بارزة وحدها عليها أفضل الصلاة و السلام انتهى. يريد أنها سارية فيه كسريان الماء في العود الأخضر بحيث لو زال هذا السريان لصار عدما محضا في الحال قبل المآل و لو زالت هذه المظاهر التي هي الحاجبة عنها لم تر إلا هي‏ بارزة وحدها و إلى هذه الوحدة يشير في«الفتوحات»عقب ما مرّ عنه في الوحدة قبلها بقوله:و هو واحد فما صدر عنه إلا واحد فإنه في أحدية كل واحد،و إن وجدت الكثرة فبالنظر إلى أحدية الزمان الذي هو الظرف،فإن وجود الحق في هذه الكثرة في أحدية كل‏ واحد فما ظهر عنه إلا واحد،فهذا معنى لا يصدر عن الواحد إلا واحد،و لو صدر عنه‏ جميع العالم لم يصدر عنه إلا واحد فهو مع كل واحد من حيث أحديته،و هذا لا يدركه‏ إلا أهل اللّه،و تقوله الحكماء على غير هذا الوجه و هو مما أخطأت فيه،انتهى منه بلفظه.
و قد ذهب الأشاعرة و المتكلمون إلى جواز استناد آثار متعددة لمؤثر واحد بسيط لأنهم قائلون بأن جميع الممكنات المتكثرة كثرة لا تحصى مستندة بلا واسطة إلى اللّه تعالى‏ مع كونه منزها عن التركيب و الحكماء منعوا هذا أعني جواز استناد الآثار المتعددة إلى‏ المؤثر البسيط الواحد الحقيقي من جميع الجهات،و قالوا:إنه لا يجوز أن يستند إليه إلا أثر واحد،و قالوا في معنى ما صدر عن الواحد إلا واحد أن الحق تعالى ما خلق إلا واحدا و هو العقل الأول،و العقل الأول أوجد الفلك الأول بمادته و صورته و نفسه الناطقة المدبرة له‏ و أوجد العقل الثاني ثم العقل الثاني أوجد فلكه و مادته و صورته و نفس و العقل الثالث، و هكذا إلى العقل العاشر،ثم خلق العقل العاشر العناصر الأربعة،و المواليد الثلاثة بأنواعها الكثيرة و نفوسها و قواها،و غير ذلك إلى ما شاء اللّه.هذا ما قالوا. و حمل الأكثرون كلامهم هذا على الظاهر من إثبات فاعل و مؤثر غير اللّه تعالى عما لا يليق به و حقق المحقق الدواني في بعض رسائله أن تحقيق مذهبهم أنه لا فاعل في الوجود إلا اللّه تعالى و بين ذلك بالبيان الشافي فلينظر.

و أهل اللّه تعالى يقولون معنى ما صدر عن الواحد إلا واحد أن وجوده تعالى في أحدية كل واحد و أنه مع كل واحد من حيث أحديته كما قاله الشيخ الأكبر،أو أنه ما صدر عن‏ الحق تعالى إلا واحد و هو الوجود المفاض من الذات العلية فيضانا متحدا و العقل الأول‏ و غيره من سائر الموجودات سواء في هذا الوجود المفاض كما قاله غيره. 

و قال العارف الجامي في«الدرة الفاخرة الملقبة بحط رحلك»في ترجمة القول في‏ صدور الكثرة عن الوحدة:الظاهر أن الحق ما ذهب إليه الحكماء من امتناع صدور الكثرة عن الواحد الحقيقي و لذا وافقهم الصوفية المحققون في ذلك لكن خالفوهم في كون المبدأ الأول كذلك فإنهم يثبتون له تعالى صفات و نسبا تغايره عقلا لا خارجا كما سبق‏ فيجوّزون أن يصدر عنه باعتبار كونه مبدءا للعالم كثرة من حيث كثرة صفاته و اعتباراته‏ و أما من حيث وحدته الذاتية فلا يصدر عنه إلا أمر واحد من تلك الصفات و الاعتبارات‏ أي و هو نسبة العموم و الانبساط للوجود المفاض المعبر عنه بالعما قال و بواسطته يلحقه‏ سائر الاعتبارات و بواسطة كثرة الاعتبارات كثرة وجودية حقيقية،انتهى منه بلفظه.

و قال صدر الدين القونوي في رسالة«مفتاح الغيب»في ترجمة فصل شريف يشتمل‏ على علم غزير خفي لطيف ما نصه:الوجود في حق الحق عين ذاته و في من عداه أمر زائد على حقيقته،و حقيقة كل موجود عبارة عن نسبة تعينه في علم ربه أزلا و تسمى‏ باصطلاح المحققين من أهل اللّه عينا ثابتة و في اصطلاح غيرهم ماهية و المعدوم الممكن‏ و الشي‏ء الثابت و نحو ذلك و الحق سبحانه من حيث وحدة وجوده لم يصدر عنه إلا واحد لاستحالة إظهار الواحد غير الواحد و إيجاده من كونه واحدا أكثر من واحد لكن ذلك‏ الواحد عندنا هو الوجود العام المفاض على أعيان الممكنات ما وجد منها و ما لم يوجد، معا سبق العلم بوجوده و هذا الوجود مشترك بين القلم الأعلى الذي هو أول موجود عند الحكيم المسمى بالعقل الأول و بين سائر الموجودات،و ليس كما يذكره أهل النظر من‏ الفلاسفة بأنه ما ثم عند المحققين إلا الحق و العالم،و العالم ليس بشي‏ء زائد على حقائق‏ معلومة للّه تعالى أولا كما أشرنا إليه من قبل متصفة بالوجود ثانيا فالحقائق من حيث‏ معلوميتها و عدميتها لا توصف بالجعل عند المحققين من أهل الكشف و النظر أيضا؛إذ المجعول هو الموجود فما لا وجود له لا يكون مجعولا،و لو كان كذلك لكان للعلم القديم‏ في تغير معلوماته فيه أزلا أثر مع أنها غير خارجة عن العالم بها،فإنها معدومة لا نفسها،لا ثبوت لها إلا في نفس العالم بها،فلو قيل بجعلها لزم إما مساواتها للعالم بها في الوجود،أو أن يكون العالم بها محلاّ لقبول الأثر من نفسه في نفسه،و ظرفا لغيره أيضا،و كل ذلك‏ باطل؛لأنه قادح في صرافة وحدته سبحانه أزلا،و قاض بأن الوجود المفاض عرض‏ لأشياء موجودة لا معدومة،و كل ذلك محال من حيث أنه تحصيل للحاصل،و من وجوه‏ أخر لا حاجة إلى التطويل بذكرها فافهم،فثبت أنها من حيث ما ذكرنا غير مجعولة و ليس‏ ثمة وجودان كما ذكر بل الوجود واحد،و هو مشترك بين سائرها مستفاد من الحق‏ سبحانه و تعالى. 
ثم إن هذا الوجود الواحد العارض للممكنات المخلوقة،ليس بمغاير في الحقيقة للوجود الحق الباطن،المجرد عن الأعيان و المظاهر،إلا بنسب و اعتبارات،كالظهور و التعين‏ و التعدد الحاصل له بالاقتران،و قبول حكم الاشتراك،و نحو ذلك من النعوت التي تلحقه‏ بواسطة التعلق بالمظاهر انتهى المراد منه بلفظه،و قد نقله ببعض حذف منه الجامي في‏ «الدرة الفاخرة».

و في«لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام»في الكلام على الأمر الوحداني ما نصه:

هو المشار إليه بقوله تعالى:وَ مٰا أَمْرُنٰا إِلاّٰ وٰاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ[القمر:50]،و أمره‏ الواحد عبارة عن تأثيره الوحداني بإفاضة الوجود الواحد المنبسط على الممكنات القابلة الظاهرة به،و المظهرة إياه متعددا متنوعا بحسب ما اقتضته حقائقها المتعينة في العلم‏ الأزلي،و ذلك لأن الحق من حيث وحدة وجوده لا يصدر عنه إلا واحد؛لاستحالة إيجاد الواحد من كونه واحدا ما هو أكثر من واحد،إلا أن أرباب النظر العقلي من الفلاسفة، يرون أن ذلك الواحد هو العقل الأول،و على قاعدة الكشف هو الوجود العام،و ينبغي أن‏ تعلم أنه ليس المراد بالعموم أنه كلي،لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه،فإن‏ ذلك مما لا يصلح أن يكون موجودا في الأعيان،بل المراد بالعموم اشتراك جميع‏
الممكنات في أنه هو المفاض عليها،المضاف إليها ما وجد منها،و ما لم يوجد مما سبق‏ العلم بوجوده،و هذا الوجود مشترك بين القلم الأعلى الذي هو أول موجود المسمى‏ بالعقل الأول،و بين سائر الموجودات؛إذ ليس ثم إلا الحق و العالم،العالم ليس بأمر زائد على حقائق معلومة الحق أولا متصفة بالوجود ثانيا انتهى منه بلفظه.

و قد تعرض في«جواهر المعاني»في الفصل الثالث من الباب الخامس نقلا عن شيخه‏ أبي العباس التجاني لإيضاح هذه الوحدة،و بيانها على مذهب القوم،و إبطال ما قاله أهل‏ الظاهر من إحالتها،و إبطال ما ألزموه لمن قال بها،و هو أنها تستلزم تساوي الشريف‏ و الوضيع،و اجتماع المتنافيين و الضدين إلى غير ذلك مما قالوه.
و حاصل كلامه:إن العالم الكبير كذات الإنسان في التمثيل،و هي إذا نظرت إليها وجدتها متحدة مع اختلاف ما تركبت منه في الصورة و الخاصية،و ما ذكروه لا يلزم؛لأنه‏ و إن كانت الخواص متباعدة،و الأحكام مختلفة،فالأصل الجامع لها ذات واحدة كذات‏ الإنسان،سواء بسواء،و أيضا فلوحدته وجه ثان و هو اتحاد ذاته في كونه مخلوقا للّه تعالى، و أثرا لأسمائه و صفاته،فلا يخرج فرد من أفراد هذا العالم عن هذا الحكم،و إن اختلفت‏ أنواعه،فإن الأصل الذي برز عنه واحد،و وجه ثالث،و هو اتحاد وجوده من حيث‏ فيضان الوجود عليه من حضرة الحق فيضانا متحدا،ثم اختلفت خواصه و أجزاؤه بحسب‏ ما تفصل ذلك الوجود،فإنه يتحد في عين الجملة،و يفترق في حال التفصيل.راجع‏
كلامه،و راجع أيضا كتاب«الجامع»لابن المشري،فإنه تعرض فيه أيضا لهذه الوحدة و بيانها نقلا عن شيخه المذكور.

الثالثة:وحدة الوجود الذي به يتحقق حقيقة كل موجود،و هي وحدة الحق سبحانه، و معناها أن الوجود من حيث هو حقيقة واحدة،و هي للّه تعالى وحده لا مشارك له فيها، فهو الموجود على الإطلاق،و وجود هذه الكائنات إنما كان باستنادها إليه،و استمدادها منه،و استنشاقها لروائح الوجود من وجوده،و إشراق شعاع وجوده عليها،فهي موجودة بهذا الوجود الذي له تعالى لا بوجود آخر ثان،فلم تكن غيرا من كل وجه؛لأن الغير في‏ عرفهم هو الذي يكون له الوجود من ذاته،و يتصور أن يكون له بنفسه قوام،و هي‏ وجودها ليس من ذاتها،و لا يتصور أن يكون لها قوام بنفسها. و قد قال الشيخ الأكبر في كتاب«التجليات»له:من لم يكن له وجود من ذاته‏ فمنزلته منزلة العدم،و هو الباطل قال:و هذا من بعض الوجوه التي بها يمتاز الحق تعالى‏ عن الخلق،و هو كونه موجودا أعني وجوده من ذاته انتهى.

كما أنها ليست عينا لما بين التقييد و الإطلاق من تقابل التضاد،و عليه فإثبات الوجود
لها توهم؛لأنه يتوهم الجاهل بحالها،و حقيقتها أن لها وجودا و في الحقيقة و نفس الأمر ما ثم‏
إلا وجوده تعالى؛لأن به ظهرت الأشياء كلها،و لذا قيل:

هذا الوجود و إن تعدد ظاهراو حياتكم ما فيه إلا أنتم
أنتم حقيقة كل موجود بداو وجودها ذي الكائنات توهم‏
في باطني من نوركم ما لو بداأفتي بسفك دمي الذي لا يعلم
و لو أنني أبدي سرائر جودكمقال العواذل ليس هذا مسلم‏
و في«الإحياء»في كتاب التوحيد و التوكل في الكلام على قول لبيد:
ألا كل شي‏ء ما خلا اللّه باطل‏ ما نصه:أي كل ما لا قوام بنفسه،و إنما قوامه بغيره،فهو باعتبار نفسه باطل،و إنما حقيقته،و حقيقته بغيره لا بنفسه،فإذا لا حق بالحقيقة إلا الحي القيوم الذي ليس كمثله‏ شي‏ء،فإنه قائم بذاته،و كل ما سواه قائم بقدرته،فهو الحق و ما سواه باطل انتهى.
و قال القاشاني في«لطائفه»في مبحث التحقيق ما نصه‏:  التحقيق هو رؤية الحق بما يجب له من الأسماء الحسنى،و الصفات العلى،قائما بنفسه، مقيما لكل ما سواه،و أن الوجود بكمالات الوجود:أي التي هي القوى و المدارك،إنما
هو له تعالى بالحقيقة و الأصالة،و لكل ما سواه بالمجاز و التبعية،بل تسميته غيره غير أو سوى مجاز أيضا؛إذ ليس معه غير،بل كل ما يسمّى غيرا،فإنما هو فعله،و الفعل لا قيام‏ له إلا بفاعله،فليس هو بنفسه ليقال فيه غيرا و سوى،فكان مرجع التحقيق أن ليس في‏ الوجود إلا عين واحدة،قائمة بذاتها،مقيمة لتعيناتها،التي لا يتعين الحق بها؛لاستحالة الانحصار عليه أو التقييد،فهو تعالى الظاهر في كل مفهوم،و الباطن عن كل فهم،إلا عن‏ فهم من قال أن العالم صورته و هويته،فلهذا صار صاحب التحقيق،لا يثبت العالم و لا ينفيه:أي لا يثبت العالم إثبات أهل الحجاب،و لا ينفيه نفي المستهلكين،فافهم.انتهى‏ منه بلفظه.

فهذا المعنى هو مراد أهل اللّه بوحدة الوجود،و بالوحدة المطلقة و غير ذلك من‏ العبارات التي يذكرها العارفون من أهل التحقيق،و ليس مرادهم المعنى الفاسد الذي عند أهل الزندقة و الإلحاد،و قد أنكرته عليهم علماء الأمة،و قد كشف عن هذا الشيخ عبد الغني النابلسي في رسالة له سمّاها:«إيضاح المقصود عن معنى وحدة الوجود». و في«الحكم العطائية»:الكون كله ظلمة:أي عدم صرف بالنظر إلى أصله، و حقيقة ذاته،قال:و إنما أناره يعني أظهره،و أزال ظلمة العدم عنه ظهور الحق فيه:أي‏ جليه عليه أولا بأنوار الإيجاد،و توجهه إليه ثانيا بما يقوم به،و يدوم به وجوده من أنواع‏ الإمداد،فلم يكن وجوده لنفسه و ذاته حتى يعد وجودا مستقلا،و إنما كان وجوده تعالى، و بظهور هذا الوجود في الأشياء ظهرت،و بإشراق شعاعه عليها أشرقت على حسب ما تقتضيه طبائعها و قابليتها،و استعداداتها الثابتة في العلم،ثم قال في الحكم:فمن رأى الكون‏ و لم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده أعوزه وجود الأنوار،و حجبت عنه شموس‏ المعارف بسحب الآثار،يعني:أن من نظر إلى الكون،و لم يشهد الحق تعالى ببصيرته فيه، أو عنده أو معه كما هو حال أهل التوسط الذين يرون اللّه في الأشياء،أو عندها أو معها و يقولون:ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه فيه أو عنده أو معه أو يشهده قبله،كما هو حال‏ أهل الشهود و العيان الذين يرون الأشياء باللّه،و يقولون:ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه قبله‏ أو يشهده بعده،كما هو حال أهل الدليل و البرهان الذين يرون اللّه بالأشياء،و يقولون:ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه بعده،كان معدودا من أهل الظلام،محجوبا عن اللّه تعالى‏ بسحب الكون أو الجهل و الغفلة و الآثام،و من شهده في كل شي‏ء أو عنده أو معه أو قبله‏ أو بعده أو فيه،و عنده و معه و قبله و بعده كان من أهل الأنوار،و ممن لم تنحجب عنهم‏ شموس المعرفة بسحب الآثار،و من زال عنه الوهم و العناء،و كان في مقام المحو و الفناء، و غلب عليه شهود الوجود الحق الحقيقي،الذي به كل شي‏ء موجود يرى اللّه وحده،و لذا ينفي ما عداه،و لا يثبت شيئا سواه،و يقول:ما رأيت شيئا سوى اللّه. 
و من قول بعضهم:ما في الدار غيره ديار،و قول آخر:سوى اللّه و اللّه ما في الوجود و يقول عما سواه أنه ظل،و أنه خيال،و أنه سراب،و أنه هالك،و أنه مضمحل زائل أو لا وجود له أصلا،و هو صادق في ذلك كله؛لأن وجود ما سوى الحق إنما هو بالفرض‏ و التقدير،أو الوهم و التخييل،و الوجود الحق الحقيقي إنما هو وجوده تعالى،و وجود ما عداه بوجوده لا بوجود آخر،مما عداه ليس له من نفسه وجود أصلا،فهو بالنظر إلى‏ نفسه عدم صرف،و بالنظر إلى إشراق شعاع الوجود المطلق عليه كالظل له تابع له، و التحقيق بهذا المعنى هو زبدة التوحيد،و عمدة أهل التفريد،و في ذلك يقول قائلهم: 
اللّه قل و ذر الوجود و ما حوىإن كنت مرتادا بلوغ الكمال
فالكل دون اللّه إن حققتهعدم على التفصيل و الإجمال
و اعلم بأنك و العوالم كلهالولاه في محو و في اضمحلال
من لا وجود لذاته من ذاتهفوجوده لولاه عين محال‏
فالعارفون فنوا و لما يشهدواشيئا سوى المتكبر المتعال
و رأوا سواه على الحقيقة هالكافي الحال و الماضي و الاستقبال‏
و قد حكي عن الصديق رضي اللّه عنه أنه كان يقول:ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه قبله.

و عن عمر رضي اللّه عنه أنه كان يقول:ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه بعده.

و عن عثمان رضي اللّه عنه أنه كان يقول:ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه معه.

و عن علي رضي اللّه عنه أنه كان يقول:لا نعبد ربا لم نره يعني لم نشهده.

و في الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«كان اللّه و لا شي‏ء معه،و كان اللّه وحده بلا شي‏ء».
و في«الإحياء»في كتاب المحبة و الشوق في ترجمة بيان السبب في قصور أفهام الخلق‏ عن معرفة اللّه تعالى ما نصه:

و أما من قويت بصيرته و لم تضعف منته:أي قوته،فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى‏ إلا اللّه تعالى،و لا يعرف غيره،و يعلم أنه ليس في الوجود إلا اللّه تعالى،و أفعاله أثر من‏ آثار قدرته،فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة دونه،و إنما الوجود للواحد الحق الذي به‏ وجود الأفعال كلها،و من هذه حاله فلا ينظر في شي‏ء من الأفعال إلا و يرى فيه الفاعل، و يذهل عن الفعل من حيث أنه سماء و أرض و حيوان و شجر،بل ينظر فيه من حيث أنه‏ صنع الواحد الحق،فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره،كمن نظر في شعر إنسان أو خطه‏ أو تصنيفه،و رأى فيها الشاعر و المصنف،و رأى آثاره من حيث أنه أثره لا من حيث أنه‏ حبر و عفص و زاج مرقوم على بياض،فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف،و كل العالم‏ تصنيف اللّه تعالى،فمن نظر إليه من حيث أنه فعل اللّه،و عرفه من حيث أنه فعل اللّه‏ و أحبه من حيث أنه فعل اللّه،لم يكن ناظرا إلا في اللّه،و لا عارفا إلا باللّه،و لا محبّا إلا للّه، و كان هو الموحد للحق الذي لا يرى إلا اللّه،بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه،بل‏ من حيث أنه عبد اللّه،فهذا هو الذي يقال فيه أنه فني في التوحيد،و إنه فني عن نفسه‏ أيضا،و إليه الإشارة بقول من قال:كنا بنا ففنينا عنا،و بقينا بلا نحن.انتهى منه،و قد نقله‏ السيوطي أيضا في«تأييد الحقيقة العلية».

و في كلام بعض العارفين:أبى المحققون أن يشهدوا غير اللّه،لما حققهم به من شهود القيومية،و إحاطة الديمومية.
و قال بعضهم:لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع؛فإنه لا غير معه حتى أشهده معه.

و من كلام مولانا عبد السلام بن مشيش لوارثه أبي الحسن الشاذلى:حدد بصر الإيمان‏ تجد اللّه تعالى في كل شي‏ء،و عند كل شي‏ء،و مع كل شي‏ء،و قبل كل شي‏ء،و بعد كل‏ شي‏ء،و فوق كل شي‏ء،و تحت كل شي‏ء،و قريبا من كل شي‏ء،و محيطا بكل شي‏ء بقرب‏ هو وصفه،و بحيطة هي نعته..إلى آخر ما قال. 

و قال بعض العارفين:الحق تعالى منزّه عن الأين و الجهة و الكيف و المادة و الصورة، و مع ذلك لا يخلو منه أين و لا مكان و لا كم و لا كيف و لا جسم و لا جوهر و لا عرض؛ لأنه للطفه سار في كل شي‏ء،و لنورانيته ظاهر في كل شي‏ء،و لإطلاقه و إحاطته متكيف‏ بكل كيف،غير متقيد بذلك،و من لم ير هذا و لم يشهده فهو أعمى البصيرة،محروم من‏ مشاهدة الحق انتهى.

و من كلام القطب سيدي علي وفا رضي اللّه عنه:

هو الحق المحيط بكل شي‏ءهو الرحمن ذو العرش المجيد
و النور المبين بغير شكهو الرب المحجب في العبيد
هو المشهود في الأشياء يبدوفيخفيه الشهود عن الشهيد
هو العين العيان لكل غيبهو المقصود من بيت القصيد
جميع العالمين له ظلالسجود له في القريب و في البعيد
و هذا القدر في التحقيق كاففكف النفس عن طلب المزيد