قال سيدي أبو بكر البناني:
اعلم أن التقوى مراتب، أفضلها أن تتخذ الحق وقاية بينك وبين جميع الموجودات بحيث لا يقع بصرك إلا عليه من حيث الشهود كي تكون موحداً حقيقياً، إذ ملاحظة الأغيار من حيث غيريتها توجب الإفلاس لصاحبها من توحيد الإحسان، فاتحاد العين هو الذي يقطع البين ويتحقق معه التوحيد بلا مين.
وافهم هذا المعنى من قول العارف بالله الإمام الهروي إذ يقول:
ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد
توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد
توحيد من ينطق عن نفسه تثنية أبطــلـهـا الواحد
وهذه الأبيات من حيث البديهة وبادىء الرأي توجب خدشاً في التوحيد العام، لكن من فهم مشرب القوم وما بنوا عليه أمرهم علم مراد القائل.
قال كبير الأولياء بالأندلس أبو مهدي عيسى بن الزيات رضي الله عنه: ونحن نقول على رأي هذه الطائفة إن معنى التوحيد عندهم انتفاء عين الحدوث وثبوت عـيـن القدم وإن الوجود كله حقيقة واحدة وأنـيـة واحدة. وقد قال ولي الله أبو سعيد الخزاز، وهو من كبار القوم: "الحق عين ما ظهر وعين ما بطن"، ويرون أن وقوع التعدُّد في تلك الحقيقة ووجود الاثنينية وهم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الظلال والصدأ وصور المرائي، وإن كل ما سوى عين القدم إذا استتبع فهو عدم، وهذا معنى: "كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان" عندهم . ومعنى قول لبيد الذي صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وهو: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
وهذا معنى قولهم: لا يعرف الله إلا الله ، ولا حرج على من وحد الحق مع بقاء الآثار والرسوم ، وإنما هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين لأن ذلك لازم التقييد والعبودية والشفعية، ومن ترقى إلى مقام الجمع كان في حقه نقصاً علمه بمرتبته وإنه تلبيس تستلزمه العبودية يرفعه الشهود ويظهر من لبس حدوثه عين الجمع.
ولك يا أخي أن تقول كل من ادعى توحيد الواحد من حيث الواحدية فقد كذب، إذ مرتبة الواحدية هي عبارة عن تجل ظهرت الذات فيه صفة والصفة ذاتاً فلم يحصل فيها تمييز للمراتب حتى يعقل الموحد والموحّد من حيث امتياز الحقائق، وإنما عَبَدَهُ مَن عَبَدَهُ من حيث الوحدة - يعني الألوهية ـ إذ هي التي اقتضت مألوهاً، وفي مرتبة الوحدة امتازت الذات والصفات وتباين حكم الأسماء من حيث طلب المقتضى.
وبالجملة من زعم أنه وحد الحق بنعت شهود عيـن الـقـدم ورسوم الحدثان ملحوظة فهو مفتر كذاب هو خطأ في الصواب. وهذا التوحيد الخاص الذي وقعت الإشارة إليه هو نهاية مرتبة الإحسان المشار إليها بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه" ومحتدها البقاء بالله بعد الفناء عما سواه بنعت انعدام الدائرة الوجودية في الحضرة الأحدية ووجود الأنوار الشهودية في الحضرة المحمدية فافهم.