قال الشيخ الأحسن البعقيلي التجاني في كتاب إراءة عرائس شموس فلك الحقائق العرفانية:
لا تغتر أيها المريد مع المغترين، فأنت في حضرة الحق أبداً {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}، والوريد عرق متصل بالقلب، وهو أقرب إلينا معشر الخلق من قلوبنا، وهو معك بذاته وبعلمه، مع ظاهرك وباطنك، ومع كل ذرة من ذرات الوجود، فالمحجوب أنت لا هو، وإن حجبت بنفسك فأنت في مرءاً منه، وكفاك هذا شرفاً.
فكيف يصور لك عقلك أن تستحسن غيره من الحظوظ الموبقة؟ أم كيف يقل عقلك الحجاب عنه وهو الظاهر والباطن؟ أم كيف ترى أن السفر إليه هو من عقبة إلى عقبة وهو معك؟ أم كيف تشاهد النعم من غيره وهو الخالق لها؟ أم كيف تميل لغيره وهو سيدك وعزك؟ أم كيف تصل بصيرتك إليه وهو قدم وأنت حدوث؟ أم كيف تستدل عليه وهو الظاهر في كل شيء؟ أم كيف تشير إليه وهو حاضر؟ أم كيف تناديه وهو غير غائب؟ أم كيف تشاهده وهو نور قاهر؟ أم كيف تدعي حبه وهو الفاعل فيك؟ أم كيف توحده وهو واحد أحد قبل وجودك؟
وإنما أسدى إليك النعم لتشاهد سره فيها، وإنما صححك للوقوف بين يديه، وإنما أظهر مراتبه لتشاهد جماله، وإنما برّج لك الكائنات لتشاهد في كل ذرة فاعلها. فهل غاب عنك حتى تطلبه؟ أو بعد عنك حتى تسافر إليه؟ أم حجبته بالأكوان حتى تطلب زوالها بالرياضة والأذكار؟ أم خفي عنك وهو الظاهر فيك؟ كيف تحب الغير والغيرية وهما عين الانقطاع؟ أم كيف يزين لك عقلك التعلق بغير سيدك ولا وجود لسواه؟
فكن عبداً، وأحب ما أحبه، وابغض ما أبغضه، فأنت عبد لا غير لا تزين ولا تقبح، واصبر لمجاري أقدار سيدك فيك، ولا ترد شيئاً فإن في ذلك عين الهلاك، ولا تدع معرفة ولا عبادة ولا توحيداً، فالله محركك ومسكنك.
فالعارفون قنعوا بصفاء الوحدة الأصلية، غارقين في مبتدئهم ومنتهاهم في بحر الخلاص من ربقة الغير والغيرية، لا يريدون إخلاصاً ولا زهداً، وإنما شاهدوا الأفعال كلها من الله، فمن كان بالله ظهر له جمال الحق من الحق، لا بتعمل العبد، فالولاية غير مكتسبة، ولا تنال بأصل ولا عقل ولا عبادة، وإنما فعل الله يسري كما سبق به علمه جل جلاله.