إشارات العارفين في أذكار السالكين- سيدي عبد القادر الجيلاني

قال سيدي عبد القادر الجيلاني قدس سره:

أعذب مورد وردته عطاش العقول مورد الذكر والتوحيد، وأطيب نسيم هب على مشام القلوب نسيم الأنس بالله عز وجل. التلذذ بحلاوة مناجاة الله كؤوس راحات الأرواح، وذكر الله تعالى جلاء رمد عيون العقول، ودرر حمد الله لا يرضع بها إلا تيجان مفارق الأسرار، ومسك شكره لا يفتق إلا في جيوب ثياب الأرواح، وورد الثناء عليه لا يطلع إلا على شجر سر عباده المؤمنين.

إن ذكرت ربك بألسن حسن صنعه فتح أقفال قلبك، وإن ذكرته بألسن لطائف أسرار أمره فأنت ذاكر على الحقيقة، وإن ذكرته بقلبك قرّبك من جنات الرحمة، وإن ذكرته بسرك أدناك من مواطن القدس، وإن صدقته في حبه حملك بجناح لطفه إلى مقعد صدق.

ما عرف قدر جلاله من فتر لحظة عن ذكره، ولا لاحظ أزلية وحدانيته من التفت بعين سره إلى غيره. الذكر روح جناب الرحمة، يهب نسيمه على مشام أرواح الذاكرين فتهتز من نشواته أعطاف الأرواح في أقفاص الأشباح، فتقوم العقول راقصة في بساتين الصور وتخرج الأسرار هائمة في براري الوجد وتنطق بلابل السكر بما في خبايا الضمائر ويحترق المحب بنيران التلهف ويغيب المشتاق عن نظر ذاته لشدة التأسف.

فتظهر محاسن القدم تجلو عرائس صفات المحبوب على أعين الألباب في قصور الأفكار تحت قباب الأسرار، ثم يجلل عليها بجلال ستور الغيبة فتحتجب برداء العظمة، فرمدت عيون البصائر من حر العشق. فلما طلعت طلائع الاسم الأعظم في جبروت الجلال، وسطعت سطوة العز تحت خفقات الكبرياء، بهتت عيون العقول ودهشت نواظر الأفهام ووقفت أطيار الأفكار وطمست سطور كتابات الكائنات، وقال لسان هيبة الأحدية: {وخشعت الأصوات للرحمن} فتزلزلت جبال عصم الألباب ودكت ببهاء نور تجلي أرض نعوت البشرية وقصت أجنحة الأرواح فلا مطار لها في فضاء علم التفريد، وتيمت القلوب بأشواق عشقه وهامت الأسرار مولهة بحبه وتبلبلت الأفكار في براري بعده وقربه.

فحكمه مبثوثة في كل ذات، وآثار صنعه لائحة في كل مصنوع، وعجائب قدرته ظاهرة في كل كائن وبراهين وحدانيته قائمة على كل موجود، وأنوار اقتداره باهرة لعين كل عقل، وألسن حسن صنعه تخاطب أهل الوجود بإشارات شواهد إلهيته. قابل مرايا العقول بأشخاص بيان عجائبه وجلا على عيون قلوب عباده عرائس أسرار الغيب {ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير}.