قال الشيخ الأحسن البعقيلي التجاني في تفسيره:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانَتْ هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" وبه تعلم أن ثواب كل آمل ما قصده ، فلم يكرر الدنيا إشعارًا بخَساسَتِها في قلوب الزاهدين، وأما المقرَّب فتستوي عنده النّعم كلها دنيوية وأخروية، فمن النِّعَم الدنيوية نشأت قوة عبادته ومعرفته لربه، وإنما ينظرها من يد ربه، فتستوي عنده النعم من حيث هي، فلا يعتبر فناء الدنيا فإن الدنيا لم تفن بالكلية؛ فمنها خلق العبد وفيها يقبر ومنها يخرج، وهي الأم الأصلية، ونعم الدنيا أم لنعم الآخرة بل ولكل نعمة.
فالعارف إنما يشاهد أنه ينتقل من الاسم المحيي حتى يصل إلى ما قدر له من تجليات أنواره، فينتقل إلى اسمه المميت فيستتم ما قدر له من تجليات المميت، فيأكل منه ويشرب وينكح على حسب أنوار الاسم المميت. فأهل « المحيي » عند أهل المميت كأموات عندهم فلا مناسبة بينهم، وأهل المميت عند أهل الاسم المحيي أموات، قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءُ} يعني: باعتبار مقامهم يأكلون، ويستبشرون بنعمة من ربهم على حسب ما يناسب الاسم المميت فلا يعرفهم إلَّا مَن شاركهم بموت البشرية: "مَنْ أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فَلْيَنْظُرْ إلى أبي بكرٍ".
فلا ينبغي للعاقل أن يختار على ربه غيره أبداً، ولا يدعي الاستغناء عن ربه، بل هو ذات الافتقار وعينه إلى ربه، فإن الكون كشبكة معلقة بيد الرب تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولًا} فيطلب طالب الحق من ربه أن يحصل من العلوم الشرعية ما يفرق به بين الحق والباطل، كالعلوم الرسمية والقوانين المتداولة.
فالعارف إنما يأخذ علمه وإيمانه وحُجَجَه مِن القرآن، وهو الذي لا يموت، عن كشف عن دليل الله، فالكشف إزالة الله الألباس عن دليل الكتاب العظيم، فلا علم خارج عن نص أبدًا، فلا يُتصوّر أن يتجلى الله لأهل طاعته بشيء زائد عن القرآن {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} فهو عُمدة أهل الكشف عن الدليل، والعيان عيان أسرار حكم القرآن المبين بالحديث.
فبقدر الإقبال على الله يتفرغ العبد مما سواه مع معانقة الشريعة، التي هي عينية الحق وأم الحقائق. فالوصول الشرعي وصول طاعته، والرضا بها عـمـا سـواهـا بـحـب هوى الله تمامه حيث قلب هواه في هوى ربه، وهوى ربه هو عين طاعته، فانقلب مراده مراد ربه تعالى، فلا يحتجب عليه بالكثرة عن الوحدة ولا بالوحدة عن الكثرة لمشاهدتهم حيثما قلبوا الأحداق الأنوار، فانغمسوا في الحقيقة فلا أغيار تخطر ولا اعتبار لها أصلاً.