قال سيدي محمد بن أحمد البوزيدي في الآداب المرضية:
ومن أدب المريد: أن لا يعتمد على شيء دون فضل الله ورحمته، وإن كانت له علوم وأحوال ومقامات وكرامات وأسرار لا تعد ولا تحصى، وإذا وقف مع شيء من ذلك حجبه عن الله سبحانه، أحب أم كره.
وينبغي أن لا يرى نفسه مع الله في حال من الأحوال، سواء وافق الشرع أم لا، إذ لا بد من تجلي الظلمة وتجلي النور ليتميز سير السائرين. فالصادق العالم لا وقوف له مع شيء سوى مولاه ، والصادق الجاهل يفرح بحال النور ويحزن بحال الظلمة، وذلك لجهله بالمتجلي سبحانه، والتجليات هي التعرفات. فالحق أبداً يتعرف لعباده: فمنهم من يعرفه في الشرائع وينكره في الحقائق. ومنهم من يعرفه في الحقائق والشرائع وهو الذي لا يشغله عن الله شاغل. ومنهم من يجهله في الحقائق والشرائع ولا يشغله عن نفسه شاغل.
والعارف الكامل عارف بالله في الحقائق والشرائع، فإذا وردت الحقائق قال: هذا تجلي اسمه القاهر العادل، وإذا وردت الشرائع قال: هذا تجلي اسمه اللطيف الكريم، وهو مع المتجلي لا مع التجليات. ومرادنا بالحقائق التعرفات الجلالية، ومرادنا بالشرائع التعرفات الجمالية، لأن التعرفات الجمالية فرق، والنفس فرق تحب ذلك، والتعرفات الجلالية جمع ، والروح جمع تحب ذلك. لأن النفس والروح مثل زوجتين عند الرجل، وهو القلب، فإذا مال للواحدة منهما هجر الأخرى، وإذا هجرها كرهته، فإذا هجر النفس لا يعمل لها إلا ما تكره حتى تموت أو تنطلق منه، وموتها أحسن. والحقائق هي الثقيلة على النفوس.
وفي الظواهر تنقسم الحقائق على قسمين: حقائق مباحة وهي مرادنا، وحقائق مكروهة محرمة لا يقع فيها إلا أهل النفوس الأمّارة. وإن وقع الصدّيق في شيء من ذلك تولاه مولاه إما بتوبة ظاهرة، وهو أن لا يعود أبداً إن كان من أهل الخدمة، وإما بتوبة باطنة، وهو أن لا يعود لرؤية سواه سبحانه أبداً إن كان من أهل النظرة.
ولنرجع إلى ما كنا بصدده من الاعتماد على الله دون شيء سواه، فنقول: لا يصح الاعتماد على الله وحده إلا بعد القيام بالشرائع، وبعد القيام بالحقائق والشرائع لأهل الحقائق، وإلا فالاعتماد على غير هذا الوجه كمن يبني على الماء. وإذا حصل الاعتماد على الله بالقلب لا بد أن يظهر أثره في الجوارح، وهي الأعمال الصالحات. وبقدر الاعتماد تتفرع الأعمال في الظواهر. فإذا حصل الخوف من الله انقهرت النفس عن المعاصى، وإذا حصل الرجاء قامت بالطاعة، وإذا حصل التوكل قامت للزهد، وإذا حصل الحب قامت للورع، وإذا حصل الرضى قامت للحلم، وإذا حصل الحياء قامت للتواضع، وإذا حصل اليقين قامت للسخاء، وإذا حصل العالم قامت للأدب، وهو أفضل سائر المقامات.
فعليك بالعلم والأدب، فإن سائر المقامات تطلبك وتعشقك ولا ترتاح إلا إذا وصلتك والسلام.