قال الشيخ محمد بن أحمد البوزيدي في الآداب المرضية:
إن وقتاً من الحضور برفع الستر أفضل من عبادة العمر كله من وراء الستر. فمن تمام نعمة الجليل أن يرزقك الحضور المتصل . وانظر إلى قوله عليه السلام : "تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة". والفكرة هي الحضور أو ينشأ عنها الحضور. فأول عبادة القلب الفكرة ثم النظرة ثم السكون في الحضرة. فمن لم يعبد الله بقلبه فليس بعابد على التحقيق. وإن شئت قلت: الفكرة مفتاح والحضور باب والحضرة دار، فمن تمسك بالمفتاح لا بد أن يفتح.
والفكرة فكرتان: فكرة أهل الدليل، وفكرة أهل الشهود، ولا تحصل فكرة أهل الدليل إلا لمن تفرغ من حب الدنيا وأقبل على العبادة، ولا تحصل فكرة أهل الشهود إلا لمن تفرغ من حب الدنيا وحب الآخرة ليكون فكره بالله. وفكرة أهل الدليل في الله من حيث إنهم شغلتهم الأكوان عن مكوّنها لبعدهم عنه تعالى، وذلك لاعتمادهم على العمل، ولو أنهم تخلصوا لغيّبهم الحق عن الرجاء والخوف، ولكانوا عبيداً لله حقاً ولرفع عنهم الحجاب الموضوع عليهم من أجل الجزاء. ولو أنهم افتقروا إلى أطباء القلوب ودفعوا إليهم نفوسهم لعرّفوهم بحقيقة العبادة، فما حجب الخلق عن الله سوى ظنهم بأنهم موجودون فعملوا عمل البر بنفوسهم وانتظروا رفع الحجاب، وأي حجاب أعظم من وجودهم؟ إذ لو فقدوا نفوسهم لما احتاجوا إلى كثير العمل، فالقليل يعود كثيراً، فما حصل التعب والمشقة إلا من عدم فقدان النفس، وأي تعب على من هو بالله وأي راحة لمن هو بنفسه؟
وأهل الشهود فكرهم بالله، غيّبهم الحق تعالى عن نفوسهم وعن جميع الكائنات، فخلصت لهم العبادات لوجودهم إياه وفقدانهم لنفوسهم، ولو أنهم شهدوا غيراً ما قدروا على شيء من الإخلاص ولو كان الواحد على عبادة الثقلين. فما طلب الحق سبحانه من المخلصين سوى قلوبهم حتى لا يتصور فيها غيره، فكانت ساعة من هؤلاء خيراً من عبادة سبعين سنة.
ولا تحسبن الحضور بالعلم، لا والله، إنما الحضور بالحال. إذ مثل الحضور بالعلم كرؤية الجائع للطعام الممنوع منه، فافهم. وينبغي لصاحب الحضور أن يسلك على يد شيخ ذي همة قاطعة إذا ذكرك سيرك، وإذا نظرك غيبك ، وإذا همّ بك حفظك ورعاك ومنعك تدبيرك واختيارك وعرّفك بقبيح أفعالك ورقاك إلى مقام كمالك، والله غالب على أمره. ثم لا زال يسلك بك مسالك الشهود حتى يقف بك على الحدود، فتعرف قدرك من قدر المعبود، ثم تركع ولا تقطع، ثم تسجد ولا ترفع.
فاسع يا أخي في ملاقاة العارفين الموحدين المجذوبين السالكين ليجذبوك عنها ويسلكوك به لا بك حتى تصير عنها حرّاً ولا عبداً، فتخرج حضرات الأكوان بحضور حضرة المكوّن، ثم ترجع إلى حضرات الأكوان بحضور حضرة المكوّن. وهذا مقام نفيس، وهو المعبر عنه بمقام البقاء.