قال سيدي علوان الحموي في شرحه على تائية سيدي ابن الفارض، عند قوله:
وصرّح بإطلاق الجمال ولا تقل بتقييده ميلا لزخرف زينة
فكلّ مليح ، حسنه من جمالها معار له بل حسن كلّ مليحة
بها قيس لبنى هام بل كل عاشق كمجنون ليلى أو كثيّر عزّة
فكلّ صبا منهم إلى وصف لبسها بصورة حسن لاح في حسن صورة
وما ذاك إلّا أن بدت بمظاهر فظنّوا سواها وهي فيها تجلّت
بدت باحتجاب واختفت بمظاهر على صبغ التّلوين في كلّ برزة
يعني: لا تجعل الجمال الإلهي مقيداً في صورة دون صورة، وفي مظهر دون مظهر، بل اشهده مطلقا في كل مقام ومشهد لأن كل مليح ومليحة وجميل وجميلة من علوي وسفلي فهو نفحة من نفحات جماله ولمعة من سطعات کماله ونور هلاله، فطوبي لمن أضحی من أهل وصاله وشهود ذاته في تجلياته، وذلك أن قدرته متعلقة بكل مقدور ومشيئة وإرادته شاملة لكل شيء مراد ، فهو {الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}، وأرباب القلوب يشهدونها في كل معنى وبكل لون وصبغة في كل برزة من برزاتها وحضرة من حضراتها، وأهل الحجاب مختفية عنهم مسترة بظهورها في مظاهرها ، محتجبة بشدة سنائها ونورها. قال ابن عطاء الله في حكمه: لولا ظهوره في المكونات ما وقع عليها وجود أبصار أظهر كل شيء ؛ لأنه الباطن وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر.
واعلم أن ظهور الوجود الحق في كل فرد من أفراد الخلق إنما هو بحسب ذلك الفرد الخلقي لا الوجود الحقي، فاختلاف التجلي باعتبار المجالي لا باعتبار المتجلي. ولنضرب لك مثلاً فنقول: الشمس لا لون لها في حقيقتها، وإنما تتلون بحسب شعاعها، وأظهر ما يكون ذلك في الزجاجات لرقتها وصفائها، فإذا كانت الزجاجة ملونة بلون ما كالخضرة والحمرة والزرقة والصفرة وغير ذلك، ظهرت فيه الشمس بحسب ذلك اللون، فلو فرض أنها حاذت زجاجات كثيرة متجلية في ذلك المحاذي لها من الزجاجات، فرأى شخص نورها أبيض وآخر أحمر وآخر أخضر، وهلم جرا. فهل يلزم من ذلك تلون في حقيقتها أو تكيف في ذاتها وصفتها من حيث هي؟ کلا، وكذلك ظهورها وإشراق نورها إنما هو بحسب ما تجلت فيه وطلعت عليه.
ولعل هذا الرمز مأخوذ من قول شيخ الطائفة أبي القاسم الجنيد، قدس الله سره، حين سئل عن المعرفة بالله والعارف، فقال: لون الماء لون إنائه. قال بعض شراح الفصوص في أثناء كلامه على هذا: فإن تعين الوجود الحق وظهر في تجليه، إنما يكون بحسب خصوص قابلية المتجلي له، يعني: ليس للحق صورة معينة فتميزه عن صورة أخرى، كالماء لا لون له، ولكن لون الماء يتلون بحسب لون إنائه، فإن الحق لذاته يقتضي القبول لكل نعت والظهور بكل وصف بحسب الواصف والعالم والحاكم، وإن كان العالم به صاحب اعتقاد جزئي ظهر في معتقده بحسبه، فهو بالنسبة إلى كل ذي اعتقاد على حكم معتقده، ومن لم يتقيد في معرفته وشهوده له أحدية بالجمع، فذلك هو العارف العالم الذي لا لون له يخرج الماء إلى ذلك اللون، وفي قوله دلالة على أن السائل عن التوحيد لم يكن إلا صاحب عقد معین، فأجابه الجنيد بجواب کلي، فرقاه إلى فوق معتقده، فإن من كان على ما ذكرنا لا لون له، فيظهر الحق بحسبه كما هو تعالى في نفسه.
وبالجملة: فكما أن الماء لا لون له، وإنما يتلون بحسب أوانيه، وكذلك النور لا لون له، وإنما يتلون بحسب زجاجاته، وكذلك الحق بل وجوده مقدس عن التكيفات والتلونات وإنما ذلك بحسب المظاهر، كذلك من شهد الحق في الخلق من غير كيف ولا حلول فهم عنه وأحبه، وصار ممن قال فيهم سبحانه: {والشهداء عند ربهم} لا ممن قال فيهم: {كلا إنه عن ربهم يومئذ لمحجوبون}.