الذكر مفتاح الفناء، والفناء مفتاح بركة الشهود - الشيخ حسن بن موسى الباني الكردي

قال الشيخ حسن بن موسى الباني الكردي القادري في شرحه على حكم الشيخ الأكبر، عند قوله: "من لازم لذكر الله قطعه عن كلّ شيء سواه"

أي: الذي داوم على ذكر الحق ولازمه، قطعه الله تعالى أو ذكر الله تعالى عن كل شيء سواه تعالى، بأن تضمحل مكوناته ولا يبقى إلا المكون، لوجود تجلي الحق تعالى بالمذكور حقًا، فيدخل نور الذكر في باطنه، وذلك النور من نور الله القديم، وإذا قورن الحادث بالقديم تلاشى الحادث ويبقى القديم. والمراد أنه ينقطع عن كل شيء من حيث هو رؤيته سواه، أو عن كونه سواه؛ لا أن ينقطع عن الأشياء، لأنها موجودات بوجود الحق لا معدومات، فلا يمكن الانقطاع لأحد عن الأشياء، وإنما الانقطاع عن كونها سواه وغيره تعالى.

ففي الابتداء يرى الأشياء غيراً أو سوى وأنها ذوات مستقلة بنفوسها عرض عليها وجود زائد عن وجود الحق، فإذا لازم الذكر يحصل له النور الموجب للكشف المستلزم لمعرفة الأمور على ما هي عليه، فحقا يكشف له أن الأشياء أعراض لا ذوات، وقيامها بالله لا بنفوسها، ووجودها هو وجوده تعالى لا أن الوجود عرض عليها، وقولهم : الأشياء معلومات وموهومات وهالكة وفانية وأمثال ذلك مع أنه لا يتطرق إلى الوجود الحق هذه الأحكام المذكورة، فالمراد أنها ليست موجودة بوجود زائد عن وجود الحق؛ لا أنها هالكة ومعدومة بالكلية، لا وجود لها مطلقاً، فإنه تعالى متجلٍّ في كل شيء، وسار بهويته الغيبية في كل شيء، فلا غير ولا سوى من حيث الوجود ومن حيث الذات.

ولهذا قال الشيخ قدس سره: "من لم يفقد ذاته لا يشهد بركاته"، ومعنى فقدان الذات: الفناء في الله، يعني أن الذي لا يخرج عن وجوده، ولا يتحقق بأنه تعالى الفاعل الموجود لا غير فلا يشهد بركاته المستعدة له في الأزل.

ومن فقد ذاته بأن خرج عن الوجود والإرادة لنفسه وأثبتها الله وحده يشهد جميع بركاته الأزلية الثابتة له في حضرة العلم الأزلي، والمراد بشهود البركات ذوقها لا العلم بها، فإن العلم بالشيء دون ذوقه لا يفيدِ، كما أن وجود العلم بالولاية من غير أن يكون الشخص وليًا لا عبرة له. فلا يذوق البركات إلا مفقود الذات والصفات لأن فقد الصفات لازم لفقد الذات.

ويُحتمل أن يكون الضمير في بركاته للحق تعالى، أي لا يذوق بركات الحق تعالى ويشهدها ويعاينها إلا المفقود المذكور، فإنه يشهد الجميع بركاته تعالى وغيره ليس كذلك، فإنه لا يشهد الجميع بركاته بل يعلم أو لا يعلم أصلاً، فإن هذه المشاهدة لا تكون إلا بالذوق فإن الأشياء كلها بالنسبة إلى الحق بركات وذات قدر وكمال. والدنيا والنقص أمر عارض، ومن هنا يلزم الرحمة والشفقة لجميع خلقه الله، وأن لا يحتقر شيئًا من الأفعال والأعمال والأقوال لأن الله تعالى ما احتقره لما أوجده وليس شيء موجود إلا وله تعالى بذلك الشيء عناية مع أن الوجود المطلق سار في الأشياء والمعية ثابتة بنصه، فالأشياء كلها حق من حيث وجوده، وباطل من حيث إن ليس لها وجود من ذاتها، فمن شهد تلك المعية فرش جناح الذل للكل فما استكبر مخلوق على آخر إلا وهو لها منكر، فمشاهدة البركات والخيرات موقوفة على فقد الذات.