الزهد في الدنيا هو أساس الزهد في النفس - سيدي محمد بن أحمد البوزيدي

قال سيدي محمد بن أحمد البوزيدي:

اعلم أن الزهد في الدنيا هو أساس الزهد في النفس، والزهد في النفس هو أساس الزهد فيما سوى الله تعالى. ومن لا زهد له في الدنيا لا يطمع أن يزهد في نفسه، ومن لا زهد له في نفسه لا يطمع أن يرتفع عنه الحجاب. فافهم يا أخي وأيس نفسك من الدنيا كل الإياس، ثم أيس نفسك من الجاه عند الخلق تنل بالفقر والذل أعلى المراتب، فإن لم تقدر عليها فعليك بالقناعة والمسكنة وحب المساكين والدنو منهم والجلوس معهم، فإنك تنال التواضع بتواضعهم، وتنال الزهد بزهدهم.

وإذا جالست الأغنياء وأهل الجاه والرياسة فلا تطمع في خير من خير القلوب، واحمد الله إذا قمت بالأوامر الظاهرة. فاترك يا أخي علل نفسك، واعتمد على فضل ربك، وعلّق همتك بربك، واشتغل بمراعاة قلبك وقل: الله الله الله ودم على ذلك فإنك ترى سر ربك.

وعن هذا المعنى قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله عز وجل: "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً". والنافلة التي ليس فوقها نافلة هي بيع النفوس، وهي والله أمر عظيم قل من يطيقه، إذ كثير من الناس يزعمون أنهم باعوا نفوسهم وهم والله ما باعوا منها إلا أقل القليل.

الذي باع نفسه ساكن في الفقر على الدوام، ساكن في الذل على الدوام، ساكن في الضعف على الدوام، ساكن في الجهل على الدوام، لا مع علمه، إذ العلم لله لا له ومن ادعاه لنفسه فهو مشرك. والعلم إنما هو دلالة على أن يحققك بوصف نفسك، ومن وصف نفسك الجهل لا العلم، فافهم واكتف بعلم الله فيك، وكن حقيراً ذليلاً فقيراً جاهلاً عاجزاً، فهذا حال من باع نفسه، ومن كان هذا حاله كان الله وليه ونصيره، وهذا هو الوراث للنبي الله لا الوارث له في الأموال والأعمال بل الوارث له في الأحوال .

واعلم وأن النفس لا يبيعها إلا الصديقون، وأنها معنوية ولا تموت أبداً، فكلما قتلتها حييت، وكلما حييتها وقتلتها زدت في القرب حتى تنتهي في القرب، ولا نهاية له. فإذا حصل القرب التام حييت النفس حياةً لا موت بعدها أبداً، وكل واحد يصل إلى ما سبق له منه. وبقدر سير الفقير في هذه الدار يكون ترقيه في تلك الدار، والله أعلم.