قال الشيخ محمد الساحلي رضي الله عنه في بغية السالك:
اعلم أن السالك إذا عالج نفسه في تطهيرها وتصفيتها بأعمال الدين ووظائف السنة على مهيع الحق، جريا على ما تقتضيه مقامات الإسلام والإيمان والإحسان حتى يبلغ الروح غاية التصفية والتطهير بالمحو والمحض، والفناء التام، حتى يفني عن نفسه، وعن شعوره بفنائه، وحتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل "ألا كل شيء ما خلا الله باطل"، فإن هذه حالة تزري بحالة الموت؛ فإن الموت قد يبقى معه من تعلقات الحس ولو أوهام، وحال المشاهدة خروج عن جميع الأوهام وتبعات الأكوان، وفناء عن الرسوم والأطلال، وانقطاع عن الإحساس، ومحو جميع الآثار. لكن مع هذا، فإن ذلك المحو هو الإثبات الحقيقي، وهذا الفناء هو البقاء الديمومي، وهذا الانقطاع هو الاتصال القدسي بوجود الحق واستيلاء سلطان الحقيقة فعند ذلك تفيض على الروح أنوار التجلي فيضاً متتابعاً مترادفاً يعم الروح ويغمره.
وإن قلت: وما تلك الأنوار التي تفيض على الروح فيعبر عنها بالمشاهدة والتجلي؟ فالجواب: إنها الأنوار الفائضة من نور الله تعالى العلي الأزلي، الذي ملأ الأكوان، بل عنه كانت، وبه قامت، ومنه فاضت جميع أنوار الوجود التي هي حجاب عن نوره العلي الأزلي، فالأنوار وجميع المخلوقات حجب للخلق عن نور سبحات ذاته، موجودة بإيجاد مستمر، باقية على الدوام؛ لأن الوجود فائض أبدًا، لو كشفها – بإمساك الإيجاد والإبقاء ولو لحظة – لم يكن لشيء منها وجود، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "حجابه النور، ولو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه".
وما يسمع السامع من الحجاب فإنما معناها راجع إلى الخلق، لأنهم هم المحجوبون عنه، والله سبحانه منزه مقدس عن أن تكتنفه الحجاب أو تحيط به الأستار، فخصوصية أهل المشاهدة التي نالوها بالعناية الإلهية، ونهايتهم التي بلغوها بالسابقة الأزلية إنما هي سطوع أنوار تفيض على أرواحهم من نور الله تعالى، تقوم لهم مقام العيان في حصول ثلج اليقين بمعرفة الله تعالى، وهو أعلى درجات اليقين، وهو الذي أشار إليه الصديق عليه بقوله: «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا". وذلك بالقرب من عالم الغيب والملكوت والبعد عن عالم الشهادة؛ لأن عالم الشهادة وعالم الغيب ضدان، فبحسب البعد من أحد الضدين يكون القرب من الضد الآخر وبالله التوفيق.