قال الشيخ محمد بن محمد بن أحمد الساحلي في بغية السالك:
المراقبة هي بداية مقام الإحسان، وأول منزل من منازله. والمراقبة: تمكن يقي الروح باطلاع الله عليه، فيلازم الواجهة، يرتقب كشف الحجاب عن وجه القلب لتتصل المراقبة بالمراقبة، ولا مطمع في هذه المراقبة لمن بقيت عليه بقية من هوى نفسه؛ لأن سببها مراعاة القلب وحفظ الأنفاس مع الله تعالى. نعم قد تطلق المراقبة باعتبارات أخر ترجع إلى المحاسبة، إذ لا يكاد يخلو منزل من منازل السالكين عن شيء من معناها، ومرادنا هنا بالمراقبة: ما يصدر عن علم صادر عن تصديق ثابت، وهي المراقبة الخاصة بأهل مقام الإحسان، الصادرة عن ذوق بكشف واطلاع، لأنها مراقبة مطالع شعاع شمس المشاهدة في أفق التوحيد المبين، بمطالعة عين الصدق، وتلمح إشارات الأزل، وهي مبادى الوصلة وعلامات القرب. قال بعض العارفين: "من لم يحفظ بينه وبين الله تعالى المراقبة، لم يصل إلى الكشف والمشاهدة". وقال بعضهم: "المراقبة تؤديك إلى طريق الحقائق".
سئل بعضهم عن المراقبة؛ فقال: "مراعاة السر بملاحظة الحق مع كل خطرة". فمحل المراقبة من الإحسان كمحل الإخلاص من الإيمان، ولما نال القلب بالطمأنينة من العمارة بالله تعالى ما نال، قيل للروح: «قد آن لك أن تصفو مشاربك، وتُقرّب منك مطالبك: فراقب مولاك عساه يتولاك فتظفر بمشاهدته، فهو حاضر معك، قريب منك، إن صفا سرك؛ فهو موضع نظر الله الى منك".
واعلم: أن المراد بتصفية الروح هو أن يعود إلى حالته الأولى من الطهارة، فيصير كالمرآة، بحيث لا يخفى فيه شيء من الحقائق، ولو لم يبق هنا من حجب الروح التي تصده عن الكشف والاطلاع والمشاهدة غير غبش بقي من أوهام تولدت عن الهوى فهو وإن ذهبت أوهامه وبرئت أسقامه فلذلك تأثير في التثبط عن النفوذ، فإذا زال الغبش وذهب الأثر وقف على عين الخبر، فشاهد من الحقائق الإلهية والأسرار الأزلية والألطاف الجبروتية ما لم يكن له إليه قبل ذلك سبيلا، وإن وافقه الإسعاد الاختصاصي والإمداد الإلهي، ففي غاية منزل المراقبة يدرك المراد، ولا خبر كالعيان. فلا يزال يراقب أسرار الغيب في مرآة التحقيق بما يقتضيه ذكره بناء على مقصده، حتى يزول الغبش ويرتفع الغبار، وتحصل غاية التصفية، عندها تتجلى له عرائس الحقائق على ما هي عليه سافرة عن وجه العناية، وإلا فلا، وبالله التوفيق.