قال سيدي أبو بكر البناني في رسائله:
اعلموا وفقكم الله أن الوجود من حيث هو ما أوجده الحق إلا لكم، وأنتم ما أوجدكم الحق إلا له سبحانه. لكن هذا الوجود محكوم عليه أنه خادم ومنفعل لمن هو من بني آدم حقيقة وهو صاحب الشعور. ونعني بالشعور مهما أطلقته علم اليقين الذي لا يخالجه شك ولا وهم.
فصاحب هذه الحالة هو آدم الذي خُلق الكون من أجله، وأما من كان في الصورة آدمياً وهو من حيث الهمة بهيمي، فلا شك أن الكون يتحكم فيه ويتصرف فيه كيف يشاء لأن هذا الوجود له صولة عظيمة، إذا لم يقابله المتصرف فيه بما هو أقوى منه أخذه وتصرف فيه وصار منفعلاً لما يطلبه الوجود منه، لأن الحقائق قد انعكست وصار الطالب مطلوباً والمطلوب طالباً. فلذلك قلنا: إن الوجود يكون عند أمر من كان آدمياً حقيقة، والمراد به من كان عبداً الله حقيقة بأن تخلص من رقية الهوى بحيث لم تبق فيه شائبة كونية بمعنى أنه لا اسم له ولا عين في الدائرة الوجودية، فهذا هو عبد الله حقيقة، وهذا هو الذي صار الوجود خديماً له لأنه عقد نفسه بعقدة الفناء وحلها بحلة البقاء فملك الأكوان كلها. وهذا هو صاحب الهمة العالية التي تحققت أن ما سوى الله لا وجود له حقيقة، وإنما صورة الوهم الناشئ عن دخان النفس وحطب الهوى هي التي أوجدت نفسها في الدائرة الكيانية الخيالية فزعمت أن ثم موجوداً غيرياً فطلبته من حيث وهمها وعلقت به همتها فتفرقت الهمة في الكون فصارت همماً باعتبار الكون ، وإلا فما ثم إلا همة واحدة تعددت بالاعتبار.
وقد علمتم أن الشريعة التي نصب ميزانها بالقانون الإلهي إنما جاءت برفع الهمة عما سوى الله حتى تتحرر العبودية لله وحده حسبما تقتضيه غيرة الله على عبده، إذ رفع الهمة جواد لا يكبو وسيف لا ينبو، فإذا أراد الله أن يوصل عبداً إلى العلم بكمال ذاته وعلي صفاته رزقه همة عالية يطير بها من حضرة نفسه إلى حضرة ربه، فبينما هو في نوم غفلاته الوهمية إذا به معربداً في الحضرة الحقيقية لأن الهمة للسائر بمنزلة البراق يضع حافره عند منتهى بصره والأجنحة التي يطير بها تنبت من ريش الشريعة الغراء النقية البيضاء. فتحافظوا إخواني عليها واعلموا أن الله ناصركم ما دمتم متمسكين بها إذ قال تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}، فنصرتنا الله مخالفة هوى أنفسنا بنعت معانقة أوصاف العبودية، ونصرة الله لنا رفع الستور ودوام الحضور، فدوموا على طاعة الله مع الغيبة عن أحوالكم وأفعالكم وأقوالكم واشهدوا المنة من الله تعالى عليكم فيما أنتم فيه.