قال سيدي محمد بن أحمد البوزيدي في الآداب المرضية:
واعلم أن أحوال المخلصين كأحوال الصبيان الصغار، لا يرجون على فعلهم المليح مدحاً، ولا على فعلهم القبيح ذماً، بل أهل الإخلاص أكثر من ذلك، فعبادتهم كلها موافقة لما تجري به رياح الأقدار، فهم كالغصن الرطب الذي يميل مع الأرياح السبعة كيفما تحركت، ولا يردّه إلا الريح الغالب على الآخر.
وهذه هي الفطرة الحقيقية التي هي عن علم بخلاف فطرة الصبيان، لأنها لا علم لهم بها، وذلك لغلبة وصف الروح على النفس، فالعلم يحمله العقل والعقل ليس عندهم منه شيء، أعني عقل التمييز، وهذا هو العقل لا غيره، فعقل الصبيان غالب عليه وصف النفس، وعقل الشبان غالب عليه وصف النفس، حتى يردّ نفسه عن هواها، فحينئذ يصير عقلاً كاملاً، وأما ما لم يرد نفسه عن هواها فهو ناقص، وهو المسمى بعقل التمييز في الجملة. وعلى هذا العقل يكون الحساب ، ويجب التكليف، ولا يزال صاحبه يرد نفسه عن هواها بالعلم ونور العقل حتى تصير النفس كاملة العلم والعقل؛ فحينئذ تقبل الحقائق الربانية والأسرار القدسية، وذلك بعد رجوع النفس على الفطرة المحضة الأصلية، وهي الفطرة التي فطر الأرواح عليها من العلم بأسرار الربوبية، والقيام بآداب العبودية، فافهم.
وأما غير المخلصين وإن كانوا علماء وصالحين غايتهم يحوشون الناس إلى الفطرة ولا يمكنونهم فيها كل التمكين، لأن التمكين في الفطرة مقام لا يمكن التعبير عنه باللسان، ولا الجولان فيه بالفهم والعقل وتصاوير الظنون، وتخييل الفكر، ومن زعم أنها تدرك بشيء من أوصاف الخلق أو العقل فهو جاهل بها على التحقيق، إذ لا تُعرف الفطرة إلا بها ، أي بنفسها ولا توصف إلا بها، لأنها من أسرار الله تعالى. قال جل من قائل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}، معناها والله أعلم لا تبدل هذه الفطرة الشريفة ولا تتغير بما يحدث فيها من أوصاف النفوس، بل هي في حفظ الله تعالى، وإن تاهت النفوس عن حقيقتها فلها نفوس مخصوصة بحملها، ولولاهم لذهب الله بسائر الوجود وهم أهل الفناء في الذات.
وأما أهل الفطرة المحضة الذين تخلّصوا من بواقي السوى ومن أسرارهم وعلومهم وأخلاقهم وأحوالهم يستمد أهل الظواهر جميعاً منهم ، فهم الخلفاء المحمديون، شربوا من عين النبوة من سر مولانا محمد صلى الله عليه وسلم وهو المنبع الخارج من حضرة الله، فكلهم من سر هذا النبي الكريم شربت بواطنهم ومنه تأدبت ظواهرهم، ومن سره عليه الصلاة والسلام وُجدت أجسامهم وأرواحهم، وكذلك سائر الموجودات الملكية والملكوتية ، فكل من تحقق بسره وغاية قدره رأى صورته الشريفة في نفسه وفي سائر الكائنات ، وهذا هو القرب التام وهذا القرب قرب المعاني وهو القرب الحقيقي.