قال سيدي محمد بن أحمد البوزيدي في الآداب المرضية:
ومن أدب المريد الصادق الذي هو صاحب تجريد أن لا يخلط تجريده بالأسباب قبل الرسوخ والتمكين في الفناء، فإن فعل ذلك فقد انحط من رتبة القرب إلى رتبة البعد، لأن التجريد مقام أهل المحبة، والأسباب مقام أهل الخدمة، وكل من رجع للأسباب قبل فنائه ما رجع إلا بإذن نفسه ولا يجيء منه شيء لأنه ظهر كذبه، فهو كمن تقدم للجهاد وهرب من العدو حيث رآه، والتجريد مرّ على النفوس ثقيل عليها، لا تستطيع أن تفعله بنفسها.
والتجريد لا يصدق على المرقعة فقط، بل التجريد كل ما يثقل على النفس في ما هو مباح، إذ كل ما يثقل عليها هو صلاح للقلوب ، وبصلاح القلب يكون القرب ، وهذه الطائفة المدار عندها على صفاء القلوب لا على صفاء الجوارح، لأن القلب إذا صفى من الدنس صفت الجوارح ، قال صلى الله عليه وسلم: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". ولا ينبغي للفقير أن يرجع عن التجريد قبل صفاء قلبه، وصفاء قلبه هو تمكنه من الفناء، ورجوعه للبقاء بشهادة شيخه وأهل الفن له، إذ في الرجوع عنه قبل الصفاء مذلة كبيرة بين أهل التجريد وأهل الأسباب. فلا يقبل أسبابه أهل الأسباب لأن الله عالم بأحوال عباده، والله تعالى هو المتجلي في كل شيء، وكذلك أهل التجريد إذا رجع إليهم بغير صدق أنكروا حاله كما قلناه في أهل الأسباب، ولا يقبلوه ولا يقروه إلا إذا رجع بصدق الإخلاص لله .
وأما المتجرد الذي ينزل للأسباب بعد الإخلاص وصفاء قلبه لتستر تجريده واتساع نظره في معرفة ربه، فهو الذي يقره هؤلاء وهؤلاء، لأنه بالله في هؤلاء وهؤلاء، وليس هو بنفسه.
واعلم أن الولي الكامل إذا رأيته في الأسباب فهو في التجريد و إذا رأيته في التجريد فهو في الأسباب، فلا أسباب ولا تجريد، فتجريده مطلع المعاني، وأسبابه الأدب مع المعاني في الأواني. هذا هو تجريده ، وهذه هي أسبابه، ولا تظن خلاف ذلك ، ولا تكن جاهلاً بأحوال الكاملين.