قال سيدي محمد بن أحمد البوزيدي في الآداب المرضية:
كل مريد أراد سلوك الطريق بنفسه لا يسلم من آفاتها إلا من أخذ الله بيده ورزقه الصدق العظيم. ومن أراد السلوك مع السلامة فليصحب شيخاً واصلاً يعرفه طريق الرياضة ويخرجه من علائق نفسه ويمنعه كل شهوة ويجانبه كل دعوى ويرغبه في دار البقاء ويحبّب له اللقاء، لا زال يرقيه في مقام العبودية وينقيه من أوصاف الربوبية، فيخليك ويحليك ويرقيك ويفنيك ويبقيك ويتركك وربك ثم تعرف في نفسك حقيقة قربك بعد تخلقك بخلق الأرض، يباهى عليها ولا يباهي بها، فإن كان هكذا أشهد حقيقة نفسه بربه لا بنفسه. وما حجبنا عن أسرار الحضرة وأنوارها وثمارها وغير ذلك سوى عدم تحققنا بوصفنا، ولو كنا كالأرض لشهدنا السر المرموز في أنفسنا.
فارجع أيها الأخ لنفسك واعتبر بعين بصيرتك لا بعين بصرك ترى جماله مرموزاً في جلاله وقدرته مرموزة في حكمته، فإن أردت كشف ذلك يقيناً لا علماً فقط فاصحب شيخاً عارفاً يرفعك إلى مقام المراقبة فتتحقق بحقيقة أفعال الحق سبحانه متصرفة كيف شاء بما شاء، فترتفع عنك أسباب طمس البصيرة من أنواع الجهل، ويعرفك حقيقة العبودية من حقيقة الربوبية، فتأخذ ما هو لك وتترك ما هو لغيرك من رؤيتك عدم الحول والقوة، فترى ما منه إليك من المنّة والفضل، والذي منك إليه باطل على التحقيق.
ثم يرقيك إلى مقام الكشف إلى أحدية الذات فترى نفسك ليست بموجودة، فتستغفر الله من المقام الأول حين تتمكن في هذا الثاني. ثم يرقيك إلى المقام الثالث الذي هو إثبات الأثر، فترى الفرق في عين الجمع والجمع في عين الفرق، فإذا تحققت بذلك استغفرت من المقام الثاني، وحينئذ تتخلق باسمه الكريم، من وراء الحجاب، أي حجاب القهرية، ولا حجاب في الحقيقة، لأنك إذا نظرت إلى رجل وعليه ثيابه فإنك تعرف حقيقة جسمه ولا تحجبك ثيابه عن معرفة جسده، فبمجرد نظرك لظاهره تعرف باطنه لكونك تعرف ذلك من نفسك، فإن الرجال كلهم على هيئة واحدة في الصورة القديمة غير الطباع فإنها مختلفة، ولولا اختلافها لكان الجمع فيهم ظاهراً من حيث إنهم شيء واحد في الحضرة الأزلية، فلولا الطبع البشري المغير لأنوار البصيرة لما ضلت الحكمة على أحد إذ الأشياء كلها صنعته وحكمته وقدرته، فهي كلها حسنة وليس هناك شيء قبيح أو هو أهل للقبح، ولا يرى القبح إلا الطبع البشري لكونه مركباً من حب الشهوات.
وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" وبقوله في الحديث القدسي: "مرضت فلم تعدني، وجعت فلم تطعمني، وعريت فلم تكسني، وعطشت فلم تسقني".
فتأمل يا أخي تعرف حقيقة كل شيء من باب الإشارة فضلاً عن الكشف إن كنت من أهله والله يأخذ بيد من عثر .