وأعلمكم يا إخواننا أن الحق إذا أراد أن يحلي عبدا بأوصافه، اضمحلت أوصاف بشريته، فيسبح في بحر الوحدة فتنشر عليه أردية عالم الذات فيفنى عن وجوده بشهود ربه غائبا عن تدبيره واختياره بتدبير سيده واختياره، لا حركة ولا سكون ولا إقبال ولا إدبار، مجلاة للمظاهر الكونية وحجاب للعوالم الغيبية من حيث الجمعية.
فمن حصل له الاستغراق كان من ذوي الأذواق، واستوى عنده السفر والمقام والنوم والقيام والضوء والظلام، شرابه من ماء واحد صاف زلال وإن اختلفت الألوان في المذاق والطعام، عبادته النظرة مع ما قل من عمل الجوارح الظاهرة، مدده قول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}، وقوله: {وَلِكُلِّ وِجْهَهُ هُوَ مُوَلِّيهَا}، وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}، مفوضاً مستسلماً لما يجري به القضاء والقدر، مُكْتَف بعلم الله حيث ما توجه عقله في جميع تقلباته توجه الطاعة.
فمن كان هذا حاله فلا يوزن عليه بميزان أهل الظاهر والإنسان يا إخواننا على نفسه بصيرة فلا يتعدى طوره ، عاش من عرف قدره وجلس دونه، فالله يتولى إقدامه على المراتب السنية ويتولى إخراجه من ملاحظة الغيرية، {قل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق}، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور}.
فكونوا حنفاء إبراهيميين، فتبرد عليكم نار الجلاليات بشرب ماء غيث الأحدية النازل سماء التفويض والتسليم، وانظروا يا إخواننا ما جلاليات القوم وجماليتهم، قد استغرقهم جلالهم في بحار الأحدية عن ملاحظة السوى وإن رأيت ظواهرهم مستقلة بالعبادة الظاهرة ، وجمالهم الوقوف على بساط التفريد فقلوبهم ساجدة أبدا منبسطة تحت جريان الأقدار، العارف إذا أصبح ينتظر ما يفعل الله طاشت حسناته وسيئاته بمحو أمله وثبوت فعل ربه، فهذا في عين الكمال باطناً وإن رأيت الظواهر منه تخالف المأمور به في بعض الأحيان فهو في طي اليقظة يفعل به سيده ما يريد لا يسأل عما يفعل، قال شيخنا في حكمه: رحمك بأكدار الدنيا ليزعجك إليه وقال: ربما أطال عليك ليل الجلال لتشره نفسك لصباح الجمال فكونوا راسخين متيقظين.