بحث متقدم
الخميس 19/5/1446 هـ - الموافق 21/11/2024 م
القائمة
الصفحة الرئيسية
الطريقة الشاذلية الدرقاوية
مقدمة عامة عن الطريقة الشاذلية الدرقاوية
أخبار الطريقة الشاذلية الدرقاوية
جديد كلام العارفين بالله تعالى والمحققين الوارثين
الحقائق الإلهية في أشعار السادة الصوفية
مشايخ الطريقة
الأوراد
ورد الطريقة العام
أوراد الطريقة الخاصة
المكتبة
كتب تصوف بتحقيق الشيخ الدكتور عاصم الكيالي
مقالات صوفية
المكتبة المرئية
المكتبة المسموعة
مجموعة مخطوطات
كتب تصوف أخرى
تسجيل العضوية
للتواصل والاستفسار
شرح الحكمة العطائية الخامسة عشرة من كتاب اللطائف الإلهية
الحكمة الخامسة عشرة:
«من رأيته مجيبا عن كلّ ما سئل، و معبّرا عن كلّ ما شهد، و ذاكرا كلّ ما علم، فاستدلّ بذلك على وجود جهله» .
شرح الحكمة:
هذه الحكمة تتضمن ثلاثة أمور: الإجابة عن كل سؤال، و التعبير عن كل مشهود، و التكلم بكل ما يعلم. و هي تدل على جهل من تصدر عنه. فأي إنسان صادفته يجيب عن كل ما يسأل عنه، و يعبر عن كل ما يراه من أمور، و يتكلم بكل ما يعلمه من علوم، فاستدل بهذه الأمور الثلاثة على جهل هذا الرجل المتصف بها.
و سنتكلم على كل صفة من هذه الصفات الثلاث كلّ على حدة لتوضيح الحكمة.
أما الأولى: و هي الإجابة عن كل سؤال، فهذا يقتضي أنه أحاط بجميع العلوم و المعارف، و هذا محال بدليل قوله تعالى: وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً [الإسراء:
٨۵]. هذا من وجه، و من وجه آخر على المسؤول عن مسألة أن يراعي حال السائل في سؤاله، قيل للإمام الجنيد رحمه اللّه تعالى: يسألك الرجلان عن المسألة الواحدة فتجيب هذا بخلاف ما تجيب هذا؟ فقال الجنيد: إن الجواب يكون على قدر السائل لا على قدر المسائل.
و روي أن أحد العلماء سئل عن مسألة فلم يجب عنها فقال له السائل: أما علمت أن من كتم علما نافعا ألجمه اللّه تعالى يوم القيامة بلجام من نار؟ فقال له العالم: ضع اللجام و اذهب، فإن جاء من يستحقه و كتمته عنه فليلجمني. و قد سئل الإمام مالك رحمه اللّه تعالى عن اثنتين و ثلاثين مسألة، فأجاب عن ثلاث و قال في الباقي: لا أدري.
أما الفقرة الثانية: و هي التعبير عن كل ما يراه من أمور، سواء كانت حسية تتعلق بالآخرين أو كانت معنوية تتعلق به هو، من كرامات و مكاشفات و غير ذلك من أحوال و مقامات روحانية ذوقية، فإن تعبيره عنها دليل على جهله، لأنه بفعله هذا يكون مفشيا للأسرار، و قديما قالوا: قلوب الأحرار قبور الأسرار، و هتك الأسرار من شأن الأشرار. و قال الشاعر:
لا يكتم السر إلا كل ذي ثقة فالسر عند خيار الناس مكتوم
و أيضا فإن مثل هذه المشاهدات تعتبر أمورا روحانية و أسرارا ربانية لا يفهمها إلا من ذاقها، و في ذلك قالوا:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده و لا الصبابة إلا من يعانيها
فلا فائدة ترجى من التعبير عنها. و الدليل على ما ذكرنا أن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم أمر سيدنا حارث بن مالك الأنصاري بعدم التعبير عما رآه قائلا له: عرفت فالزم. و الحديث بتمامه هو
أن الحارث بن مالك الأنصاري مرّ برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم فقال له: «كيف أصبحت يا حارثة؟» قال: أصبحت مؤمنا حقا، قال: «انظر ما تقول؟ فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» فقال: قد عزفت نفسي عن الدنيا، و أسهرت لذلك ليلي، و أظمأت نهاري، و كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، و كأني أنظر إلى أهل الجنة ۶٨
يتزاورون فيها، و كأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال: «يا حارثة عرفت فالزم» ثلاثا ١.
أما فيما يتعلق بالفقرة الأخيرة و هي: تحدّثه بكل ما علمه من علوم، سواء أكانت مادية أم ربانية، و الاستدلال على جهله بتصرفه هذا، فما ورد في الخبر:
«لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها و لا تمنعوها أهلها فتظلموهم» . و قد قيل: «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا العلماء باللّه، فإذا أظهروه أنكره أهل الغرة باللّه» و قال سيدنا أبو هريرة رضي اللّه تعالى عنه: «حفظت من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم جرابين من العلم:
أما أحدهما فبثثته في الناس، و أما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم» . و للإمام زين العابدين علي بن الحسين رضي اللّه عنه قوله شعرا:
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
و لاستحلّ رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
إني لأكتم من علمي جواهره كي لا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا
و قال الإمام الغزالي رحمه اللّه تعالى: قد تضر علوم الحقائق بأقوام كما يتضرر الجعل بالمسك و الورد (و الجعل بضم الجيم حشرة الخنفس) .
فعلى الإنسان العاقل أن لا يجيب عن كل ما يسأل عنه، و أن لا يخجل من قوله لا أدري، و أن لا يعبّر عن كل ما يشهده من أسرار و أذواق روحانية، و أن لا يتحدث بكل ما علمه من معارف ربانية، لكي لا يكذب من الآخرين و يوصف بالجهل أو بالكفر و الزندقة.