وحدة الوجود الحق بين أهل الدليل والبرهان وأهل الشهود والعيان

أورد الشيخ سعدالدّين التفتازاني في مقاصده قوله عن مشارب أهل الله في المعرفة عن طريق الشهود والعيان: "وهاهنا مذهبان آخران يوهمان الحلول والإتّحاد ليسا منه في شيء، الأوّل أنّ السالك إذا انتهى في سلوكه إلى الله وفي الله استغرق في بحر التّوحيد والعرفان، بحيث تضمحلّ ذاته في ذاته تعالى وصفاته في صفاته، ويغيب عن كلّ ما سواه، ولا يرى في الوجود إلاّ الله تعالى، وهذا الّذي يسمّونه الفناء في التّوحيد، وإليه يشير الحديث الإلهيّ:"أنّ العبد لا يزال يتقرّب إليّ حتّى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به"، وحينئذ ربّما تصدر منه عبارات تُشعر بحسب الظّاهر بحلول أو إتّحاد، لقصور العبارة عن بيان تلك الحال، وتعذّر الكشف عنها بالمقال، ونحن على ساحل التّمنّي نغترف من بحر التّوحيد بقدرالإمكان، ونعترف بأنّ طريق الفناء فيه العيان دون البرهان، والله الموفق. والثاني أنّ الواجب هو الوجود المطلق وهو واحد لا كثرة فيه أصلا، وإنّما الكثرة في الإضافات والتعيّنات الّتي هي بمنزلة الخيال والسّراب، إذ الكلّ في الحقيقة واحد يتكرّر على المظاهر لا بطريقة المخالطة،ويتكثّر في النّواظرلا بطريق الانقسام، فلا حلول هاهنا ولا إتّحاد لعدم الاثنينيّة والغيريّة، وكلامهم في ذلك طويل خارج عن طريق العقل والشّرع" اهـ كلامه.

ولقد كتب عليه العلاّمة المحقّق السيّد إبراهيم الشّهرزوريّ قدّس سرّه، ولفظه ما ذكره: "من أنّهما يوهمان الحلول والإتّحاد وليسا منه في شيء هو صحيح، ولكن زعمه أنّ الثّاني خارج من طريق العقل والشّرع باطل عن طريق العقل والشّرع كما هو باطل عن طريق الكشف، ولو فهم الأوّل حقّ الفهم لعلم أنّ الثّاني تحقيقه، ولو فهم الثّاني حقّ الفهم لعلم أنّ الأوّل لا يتمّ إلاّ به، ولو اكتفى فيهما بالاغتراف والاعتراف لكان أسلم وأولى، ولكن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء"، ثمّ أطال في ذلك وقال"منشأ جميع الشّبهات إنّما هو عدم تصوّر معنى الوجود المطلق على ما يريده المحقّقون من أهل الله، فإنّ كلامه واضح الدّلالة على أنّه فهم من المطلق المعنى العامّ الّذي لا يوجد إلاّ في ضمن الخاصّ، أيّ الكلّي الّذي لا يتحقّق إلاّ في ضمنجزئيّاته، وهم لم يريدوا بالمطلق ذلك وحاشاهم، وإنّما أرادوا كما صرّحوا به في كتبهم بالوجود المطلق الموصوف المعرّى عن كلّ قيد زائد على ذاته، القائم بنفسه المتعيّن بذاته، أوسع التعيّنات، فهو الفرد الواحد الّذي لا ثاني له، وما أورده من أنّ الوجود المطلق مفهوم كلّي لا تحقّق له في الخارج وله أفراد كثيرة لا تكاد تتناهى والواجب موجود واحد لا تكثّر فيه غير وارد، لأنّ الوجود المطلق عند أهل الله ليس مفهوما كلّيا بل شخص واحد موجودبذاته، إذا تجلّى بظاهر ٱسمه النّور فأشرق على حقائق الكائنات ظهرت أحكامها وتحقّقتتعيّناتها، فالوجود المطلق عند القوم هو الشّخص الموجودبذاتهالّذي لولا ظهوره في المكوّنات ما وقع عليها وجود أبصار، والظّهور المشهود في المكوّنات هو أدلّة الصّفات، أعني أدّلة العلم والإرادة والقدرة والوجود والوحدانيّة والحياة وغيرها، أمّا الصّفات نفسها فلا تحلّ في الأكوان ولا تحكيها الأكوان، إذ لا مثل ولا صورة"اهـكلامه بتصرّف فيه، بمزجه بمعنى قول الإمام ٱبن عطاء الله رحمه الله تعالى: "الكون كلّه ظلمة لثبوت عدميته في الماضي بحقيقته، وفي المستقبل على حكم ذلك، وفي الحال لعدم استقلاله، فهو عدم مظلم، وإنّما أناره ظهور الحقّ فيه، فنورانيّة الأكوانعارضةلا ذاتيّة، أوجبها تجلّي نور الحقّ عليها وظهوره فيها، فالكون بالنّظر إلى ذاته عدم، وهو معنى ما أدرج في حديث}كان الله ولا شيء معه والآن على ما عليه كان{، فمَن فني بالحقّ غاب عن الخلق فلا يشهد إلاّ الواحد الأحد، وهو معنى الوحدة في الكثرة على سبيل التّقريب، المشار إليها بقول أرباب هذا المقام والآن على ما عليه كان"، ثمّ قال قدّس سرّه: "وسبحان الله، وكيف يتوهّم من قول مَن نصّ أنّ الواجب شخص واحد، والممكنات لا توجد إلاّ بإضافتها إليه لإشراق نوره على حقائقها ليس بموجود، مع أنّ الأشياء لم يحصل لها الوجود بمعنى الوجوديّة والانتساب إلى الوجود إلاّ بإشراق نوره على حقائقها، ولولاه ما وجدت، فتشنيعه مبنيّ على توهّم أنّ الوجود المطلق هو الكلّي لا غير، ولهذا قال: وإلاّّ فتكثّر الموجودات، وكون الوجود المطلق مفهوما كلّيا لا تحقّق له إلاّ في الذّهن ضروريّ، وهو توهّم باطل، إذا تبيّن عقلا ونقلا أن الوجود المطلق موجود في الخارج شخص واحد متعيّن بذاته، فالتّكثّر إنّما هو في الموجودات الّتي هي محلّ ظهور إشراق الوجود الحقيقي، أعني الماهيّات باعتبار ظهور أحكامها وآثارها في الوجود،ثمّ قال والحاصل أنّه ليس المراد بالمطلق العامّ بالمعنى الكلّي حتّى يرد أنّه لا تحقّق للعامّ إلاّ في ضمن الخاصّ، بل المراد المعرّى عن كلّ قيد زائد على ذاته المتعيّن بذاته ولا شكّ أنّ ما هو كذلك فهو غنيّ عمّا سواه، وكلّ قيد فهو محتاج إليه، لأنّه قيّوم المقيّدات كلّها، فالأمر كما قالوا لا ما توهّمه، والّذي قالوه أنّه شخص واحد موجود بذاته متعيّن بذاته، دلّ على ذلك العقل والنّقل والكشف"اهـ باختصار من كتاب المنح الربانية في شرح المنظومة الرحمانية.

وقال الشيخ أحمد نكري(دستور العلماء) (3-308):

فظهر أن الوجود البحت الذي صارت الصورة المقيدة آلة ومرآة له عين واجب الوجود ومتعين بتعين هو عينه وأن وجود جميع الممكنات، أعني ما به تحققها ، هو ذلك الوجود المطلق الموجود في الخارج المتعين بتعين هو عينه. وهذا معنى وحدة الوجود عند المحققين يعني أن الوجود الموجود في الخارج واحد بالشخص قائم بذاته غير عارض لشيء من الممكنات ولا حالا فيه ولا محلا له. وعلى هذا لا معنى لوجود الممكن إلا أن له تعلقا ونسبة خاصة مجهولة الكنه بذلك الوجود القائم بذاته عنها ويعبر عنها بنسبة القيومية والمعية والمبدئية وإشراق نور الوجود, وليست نسبة الحلول والعروض والاتصال والاتحاد بل هي أم النسب, ليس لها مثال مطابق في الخارج, وإنما يمثل بما يمثل من بعض الوجوه تقريبا إلى فهم المبتدئ وهو من وجه تقريب ومن وجه تبعيد. وتلك النسبة على أنحاء شتى بحسب قابلية الممكنات يتعذر الاطلاع على هيئاتها.