إشارات تفسيرية عرفانية في معاني الصيام - الشيخ حسام الدين البدليسي

قال الشيخ حسام الدين البدليسي في تفسيره:

اعلم أن لكل من السر والروح والقلب والنفس صوماً، وإن كان الكل واحداً بالذات، ولكل من هذه القوى الظاهرة والباطنة نسبة مخصوصة إلى الله، وله بكل واحدة وجهاً من وجوه ألوهيته وربوبيته. فالسر مدبره ومبدأه هو التجلي الذاتي والاسم العليم، والروح مبدأه التجلي الاسمي وربه الاسم الحي، والنفس مبدأها التجلي الفعلي والمتوجه عليها بالربوبية القدرة، وأما القلب فأصله ومبدأه هو الذات مع الأسماء والصفات والتجلي الآثاري باعتبار كونه صورة الجميع.

فأصل كل من المشاعر الظاهرة والباطنة والقوى المحركة هو هذه الأسماء المذكورة، فلا بد أن يكون لكل واحد منها بالنسبة إلى هذه الأسماء عبادة وصوم. فصوم السر هو الإمساك عن غير ما يقتضيه بذاته وهو الإدراكات المضافة إلى ربه حيث لا يدرك ما سواه ولا يشهد غيره، وأما صومه في هذه النشأة فهو أن يدرك ذلك الإدراك والشهود الحاصل ضمن الشهود الذاتي بحيث لا يحتجب عن شهود الذات، وقس على هذا صوم بقية القوى.

وليس الصيام دائماً لأنه لو كان دائماً لصارت العبادة رسماً وعادة فلا يتضمن الكمالات، وهي تضاعف الإدراكات بشهود التجليات، فلا بد أن تكون كل قوى الإنسان تارة صائمة وتارة مفطرة، متوجهة إلى صور الكثرات وأحكام الإمكانات لتحصيل أطوار مبادئ التجليات وأنوار الشهودات.

ولذلك قال تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} إشارة إلى أن القوة الفاعلية والقابلية واحدة بالذات {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} أي تميلون إليها لاكتساب النتائج {فتاب عليكم} بإرجاعكم إلى ما كمتم عليه من الوحدة في المرتبة الأحدية الجمعية {وعفا عنكم} أي أزال عنكم ما اكتسبتم من أحكام الإمكان عند الرجوع إلى مرتبة الناسوت {فالآن باشروهن} حين الانصراف من الوحدة في السير من الله إلى الكثرة {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض} أي يظهر صبح العروج والعود إلى عالم الوحدة {ثم أتموا الصوم} الإمساك عن غير الحق في جميع المراتب إلى تحيط بكم ظلمة الوحدة التي هي غيب النور ومنبع الظهور في صور تمام الكثرات {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} أي الجمعية الأحدية والواحدية وجمعهما، باعتبار أن لكل واحد من الأعيان جمعية مخصوصة، والصورة الجمعية الإلهية والإمكانية في السير في الله.

فإن المسير إلى طرفي الوحدة والكثرة، أو إلى حدي الأحدية والواحدية هو من خصائص السير من الله وإلى الله، وأما السير في الله، فلتساوي الحدود والأطراف بالنسبة إليه تتساوى نسبته إلى الكل، فحده هو هذه الجمعية.