أقوال العارفين في توحيد الشهود والعيان -2

قال الشيخ البلياني قدس الله سره: فكما أن من مات بصورته انقطعت جميع أوصافه عنه المحمودة والمذمومة كذلك من مات بالموت  المعنوي ينقطع عنه جميع أوصافه المذمومة والمحمودة ويقوم الله تعالى مقامه في جميع الحالات، فيقوم مقام ذاته ذات الله ومقام صفاته صفات الله ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: موتوا قبل أن تموتوا فمتى عرفت نفسك ارتفعت أنانيتك وعرفت أنك لم تكن غير الله.
وقال أيضا: من رأى الأشياء ذات الله بلا كيف ولا أين ولا اسم لأن ما يظن أنه سوى الله ليس هو سوى الله بل عين الله سوى الله تعالى ولكنك لا تعرفه وأنت تراه ولا تعلم أنك تراه، ومتى كشف لك هذا السر علمت أنك لست ما سوى الله تعالى وعلمت أنك كنت مقصودك ومطلوبك في طلبك ربك وأنك لم تزل ولا تزال بلا حين ولا أوان وترى جميع صفاتك صفاته وظاهرك ظاهره وباطنك باطنه وأولك أوله وآخرك آخره وذاتك ذاته بلا صيرورتك إياه ولا صيرورته إياك.
وقال سيدي أحمد العلاوي شارحاً حكمة سيدي أبو مدين التي قال فيها: "احرص أن لا يكون لك شيء تعرف به كل شيء": احرص أيها المريد وافحص عن هذا الكنز الغميض حتى لا يكون لك شيء مع الله، فإن تمحض لك ذلك ذلك وزال الكل من نظرك، وامتحى من لوحة الوجود وبقي الحق كما كان ولن يزال موجودا، كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، إذ لا يمكن تعدد الوجود، تعرف به كل موجود، فثبات الله بالأشياء لا بنفسها وذاتها وطبعها وعادتها، فهي لا شيء، قال في الحكم العطائية: "الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته"، فيكون الكون حينئذ مفقوداً من حيث الذات، موجوداً من حيث الصفات التي تطلب شيئاً زائداً وهو التعلق، ولا زائد باعتبار التحقق، فما كان إلا الذي كان لأن ذات مولانا لا تقبل الزيادة كما لا تقبل النقصان، فإذا تمحض ذلك تصير الأشياء عندك حينئذ قائمة بالله لا بنفسها، ولا يصح لك ذلك حتى لا يبقى لك شيء، فإن تحققت بوحدة الوجود تعرف بها كل موجود، ولولا وجود الحق ما وقع بصرك على الوجود لأن البصر لا يتعلق بالمفقود.
وقال سيدي عفيف الدين التلمساني: ولو شاء أحد ينحدر بالتركيب من الغيب المطلق لوجد نوراً واحداً كان له اسمٌ قبل مرتبة العقل الأول ثم سمي عقلاً ثم نفساً ثم هيولى ثم ثم ثم ثم ينعطف إلى طور الإنسان فيقوم فيه الهيولى والجسم والنفس والعقل، كل ذلك في النشأةالإنسانية، فهي نسخة كاملة في مقابلة نسخة كاملة، فاستحقت الخلافة بعود الفرع إلى أصله في الشهود ووحدانية الوجود ولذلك أمرت الملائكة له بالسجود.
وقال: هذا المعنى فيه تصريح بالحقيقة الإلهية، وذلك أن الشاهد حال الشهود هو عين المشهود، ولذلك قال قائلهم: "انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بنفوسهم"، فنفوسهم هي المشاهدة المشهودة، وإذا تقرر هذا فالشاهد إذا علم أنه المشهود لم يبق لذكره نفسه فائدة فإن الذكر إنما يكون لغائب.
وقال: الكونية عالم الصور وهو العالم نفسه والأولية وحدانية النور الوجودي قبل أن تبدو الباديات وتحدو الحاديات والديمومية شهود بقاء الأولية على ما هي عليه بعد ثبوت الكونية، وذلك أنه إذا كان الآن ما عليه كان فلا علمه وهو السابق فارقه ولا معلومه وهو الكون اللاحق غاب عنه، فإذن الديمومية مشتملة الحكم في شهوده على طرفي الأولية والكونية، وذلك هو شهود أحدية الجمع، وذلك هو رؤية الحق لا وقفة فيه ولا سير.
قال مؤلف رسالة العهد: تمام جوهر الإنسان بالحكمة، فتحصل الصورة التي لا يمكن فيها الزيادة والنقصان، ولا يكون ذلك إلا إذا وجد السعيد جوهره هو كل شيء، والأشياء المختلفة فيه شيء واحد متفق من جميع الجهات ولا ضد عنده ولا خلاف ولا غيره، فلا نقص يهرب منه ولا كمال يرحل إليه، ويكون خبره ذات مخبره وعينه ذات آنيته، وهذا هو الجوهر السعيد لأنه في نعيم غير زائد عليه وهو في حرم وحدته آمن من طلب الزيادة وخوف النقصان، فصورته المتممة صورة الوجود من حيث هو مطلق، والحكمة التي تفيد هذه الصورة هي التي تصرف الأشياء إلى شيء واحد وتحيل العدد إلى الواحد وتعين حقيقة اسم الصمد في ذات كل واحد وموحد وموحد، وترد الممكن واجباً وتقلب الموجب سالباً حتى يبصر الحكيم خبر الأعداد والإضافة لم يزل قبل ذهابه ذاهباً.
وقال أيضاً: الآخرة بحسب مذهب الصوفية هي انفصال الإنسان من صفات النفس واتصاله بصفات الكمال. ونقول: الآخرة بحسب مذهبهم ترك الصوفي صفاته وأخلاقه والتجوهر بصفات الله وأسمائه. ونقول الآخرة عندهم هي الفناء عن الهوية الحادثة والبقاء بالآنية القديمة. ونقول: الآخرة عندهم ذهاب الآنية المجازية وثبوت الهوية الحقيقية. ونقول: الآخرة عند بعضهم زوال الحجاب وكشف الحقيقة. ونقول: الآخرة رجوع الوجود المقيد للوجود المطلق. ونقول: الآخرة استحقاق الوجود المقيد للوجود المطلق. ونقول: الآخرة استحقاق الوجود الواجب للوجود الممكن وأخذه ماهيته وإعطاؤه لها به لا بها. ونقول: الآخرة فصل معلل وعهد مدلل وكمال مرسل وتأخر تقدمه لم يزل ونظام جامع وغيور على حقه ومقيم على رتقه، ومناد يجيب نفسه وعالم يعلم بعزه.
وقال الشيخ إبن الدباغ الأنصاري: الجمال الكلي لم يخل عنه موجود، لكن لا يدركه على الحقيقة إلا من كانت ذاته كلية... والكلي الذات هو الذي تناسب ذاته جميع الذوات فيكون كلها وتكون كله، وذلك أن العارف لما ناسب الأشياء كلها بما له معها من الاشتراك في النور الإلهي الذي لم يخل عنه موجود لم ير ذاته شيئاً غير ذلك النور، وكذلك سائر الأشياء لا يراها شيئا إلا ذلك، أو لا يرى لها من ذاتها سوى العدم المحض وإنما الوجود لها من ذلك النور ويراه مع ذلك شيئاً واحداً فيعلم يقيناً أنه هو ذلك النور الواحد الذي غمر سائر الأشياء فكان كلها وكانت كله، ثم إنه يخرج عن الكل برؤية موجد الكل، ولا يصح ذلك إلا لمن كان الحق سمعه وبصره إذ لا يشهد الكل إلا الكل.