أقوال العارفين في توحيد الشهود والعيان -4

قال سيدي أحمد القشاشي قدس الله سره: الحق وجود مطلق عن تعينه بنسبته دون الإطلاق، ولهذا فجميع ما هو له على حدته في بطونه كما هو على حدته في ظهوره، لا تبديل له ولا للكلمات عن مقتضى تمامها في الباطن اعتبارا كما حال التجرد يكون العالم والمعلوم والعلم واحداً مع تميز كل، وإن انمحى أثر التميز ظاهراً فهو باطن ما يبدل القول لديه بحال في الظهور والبطون فكذلك في الشؤون، وإنما ينمحي الاسم ظاهراً ويندرج في الإطلاق بحيث لا تميز له ثم بحال لهذا فحكم الله عند كل شأن منه وإليه لا مدخل لنسبة الظهور بحال أطلقه وحده كما قال سيدي علي وفا:
فالكل هو بلا مرا إن أطلقت قيودهوالكل نحن يا فتى لأنا حدوده
فالكل هو من حيث الطمس فيه وانمحاء الآثار التي هي مقتضيات التعين فلا إشارة لها ثمة لها لكنها فيه لا لكونها صارت هو لأننا حدوده وحدوده معتبرة له في البطون والظهور عند أهل العيان والعيون فالخلع لا سبيل له، فلو تغيرت الحقائق باطناً لتغيرت ظاهراً ولا وجود له بل كل في فلك يسبحون ظهوراً وبطوناً ويختلف بحسب المحلات والمراتب فتحققها ولا تغفلها، واضرب لها مثلا بالماء وما عنه من المنعقدات إذا ظهرت أو لطفت فهي في باطنه هو بمعنى استهلاكها فيه وانمحاء التميز والآثار فكان صارت داخلة في حقيقة الماء ولها العدم المنعقد وطلب مكانه لأنه انغقد ماء فيه كي ترشد فكل باق على حدته وحقيقته وإن بطن صار وقوع القيد في مطلق كما في مطلق الوجود وقس به مثله وعلى الله قصد السبيل.
وقال أيضا: قد علم أولو الألباب الخلص عن النقاب أن الوجود الحق واحد وحدة ذاتية بالذات للذات في ظاهره وباطنه وأوله وآخره، وهو ما به وله كل منسوب إليه من وصف وأثر دائم ثابت بحيث لا يصير لوجه منه حاجب عن الآخر في الباطن والظاهر وحدة ذاتية، وله بحسب الإفاضة والتنزل الأسمائي قيود وشروط هي له منه لا من غيره وهي من جملة كماله إذ لا يتجدد له ما لم يكن عليه لذاته في جميع كمالاته لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم كان ولا شيء غيره أزلا وهو الآن ولا شيء غيره أبداً في جميع ما نسب إليه لا بطاريء ولا بمغاير له مغايرة شريك له في شيء منها كما قال صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولا شيء معه" أي مغاير بالذات، وإن نسبت الغيرية فهي النزول، وفي الرواية الأخرى: "ولا شيء غيره" وهي مفسرة للأولى ومبينة له، فلا يدرك من الوجود المظهر لكمالاته إلا ظهوره فيها اسماً وفعلاً كما يرشد إليه قوله: {وما رب العالمين} فلم يجب عنه لعدم إمكان الجواب عنه بغير ما أجيب به من قول الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين}، وفي الآية الأخرى: {ربكم ورب آبائكم الأولين}، وفي الآية الأخرى: {قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون}. فالكنه لا بيان فيه للغير ولا سؤال عنه، وإنما البيان منه حيث أبانت الرسل للموقنين والعاقلين، ومن طلب وراء ذلك فإنه المجنون الذي لا يعقل محل السؤال منه، فعلم من هذا أن الأسماء والآثار اللازمة لها مظهر المسمى الفعال لما يريد، فما كان لألوهيته وشأنها وربوبيته ومالكيته ورحمانيته من توابعها فمتعلقها مراتب ذاته لاقتضائها ذلك وتوقفها على ما به ظهورها لا وجودها فلا قادح به لأنه بأسره له ومن كماله لا من غيره وله كل شيء لا شيء دون شيء، قال تعالى: { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيءٍ}.
قال سيدي محمد وفا:
ومن عرف الحق المحيط بذاته       تصوره في كل شكل وصورة
قال سيدي عبد الحق بن سبعين: "لم يصح الإخبار عن مطلق الصورة إلا ومطلق المتصور يصحبها ولا عن محيط المتصور إلا والصورة تصحبه، فالمتصور بالصورة يسمى بظاهر الصورة ظاهرا وباطنا، ويحكم عليه بكل حكم قبلته الصورة من إطلاق وحصر وغيبة وحضور وأحدية وكثرة وجمع وتفرقة وسذاجة ولون وحركة وسكون إلى ما لا ينضبط كثرة من الأسماء والصفات"
قال الشيخ صدر الدين القونوي: أعلم‌ أن إطلاق‌ اسم‌ الذات‌ لا يصدق‌ علي‌ الحق إلا باعتبار تعينه‌ الذي‌ يلي‌ في‌ تعقل‌ الخلق‌ غير الكمل‌ الإطلاق‌، المجهول‌ النعت‌، العديم‌ الاسم‌. و أنه‌ وصفٌ سلبي للذات‌. فإنه‌ مفروض‌ الامتياز عن‌ كل تعين‌. و إنما الامر الثبوتي‌ الواقع‌ هو التعين‌ الاول‌، و أنه‌ بالذات‌ مشتمل‌ علي‌ الاسماء الذاتية‌ التي‌ هي‌ مفاتيح‌ الغيب‌. و مسمي‌ الذات‌ لا يغاير أسماءها بوجهٍ ما. و أما الاسماء فتغاير و يضاد بضعها بضعاً و يتحد أيضاً بعضها مع‌ بعض‌ من‌ حيث‌ الذات‌ الشاملة‌ لجميعها؛ و الاحدية‌ وصف‌ التعين‌، لا وصف‌ المطلق‌ المعين‌. إذ لا اسم‌ للمطلق‌ و لا وصف‌. و من‌ حيثية‌ هذه‌ الاسمائ باعتبار عدم‌ مغايرة‌ الذات‌ لها نقول‌: إن الحق مؤثر بالذات‌. فافهم‌.
وقال: نصٌ في‌ بيان‌ سر الكمال‌ والاكملية‌. اعلم‌ أن للحق كمالاً ذاتياً و كمالاً أسمائياً بتوقف‌ ظهوره‌ علي‌ ايجاد عالم‌. و الكمالان‌ معاً من‌ حيث‌ التعين‌ أسمائيان‌. لان الحكم‌ من‌ كل حاكم‌ علي‌ أمرٍ ما مسبوق‌ بتعين‌ المحكوم‌ عليه‌ في‌ تعقل‌ الحاكم‌. فلو لا تعقل‌ ذات‌ الحق قبل‌ اضافة‌ الاسماء إليه‌ و امتيازه‌ بغناه‌ في‌ ثبوت‌ وجوده‌ له‌ عن‌ سواه‌، لما حكم‌ بأن له‌ كمالاً ذاتياً. و لا شك أن كل تعين‌ يتعقل‌ للحق، هو اسم‌ له‌. فإن الاسماء ليست‌ عند المحقق‌ إلا تعينات‌ الحق. فإذن‌ كل‌ كمال‌ يوصف‌ به‌ الحق‌ فإنه‌ يصدق‌ عليه‌ أنه‌ كمال‌ أسمائي‌ من‌ هذا الوجه‌. و أما من‌ حيث‌ إن انتشاء أسماء الحق من‌ حضرة‌ وحدته‌، هو من‌ مقتضي‌ ذاته‌. فإن جميع‌ الكمالات‌ التي‌ يوصف‌ بها هي‌ كمالات‌ ذاتيه‌. و إذا تقرر هذا فنقول‌: من‌ كان‌ له‌ هذا الكمال‌ لذاته‌ من‌ ذاته‌ فإنه‌ لا ينقص‌ بالعوارض‌ و اللوازم‌ الخارجية‌ في‌ بعض‌ المراتب‌ وصف‌. بمعني‌ أنه‌ لا يقدح‌ في‌ كماله‌، و لا جائز أن‌ يتوهم‌ في‌ كماله‌ نقص‌ أيضاً بحيث‌ بكمل‌ بها بل‌ قد يظهر بالعوارض‌ و اللوازم‌ في‌ بعض‌ المراتب‌ وصف‌ اكملية‌. و من‌ جملتها معرفة‌ أن هذا شأنه‌.
وقال: للوجود إن‌ فهمت اعتباران‌: أحدهما من‌ كونه‌ وجوداً فحسب‌، و هو الحق‌ و أنه‌ من‌ هذا الوجه‌ كما سبقت‌ الاشارة‌ اليه‌ لا كثرة‌ فيه‌ و لا تركيب‌ و لا صفد، و لا نعت‌، و لا اسم‌، و لا رسم‌، و لا نسبة‌، و لا حكم‌. بل‌ وجود بحت‌، و قولنا: وجودٌ للتفهيم‌، لا أن ذلك‌ اسم‌ حقيقي‌ له‌... له‌ وحدةٌ هي‌ محتد كل كثرة‌، و بساطة‌ هي‌ عين‌ كل تركيب‌، آخراً و أول‌ مرةٍ؛ كلما يتناقض‌ في‌ حق غيره‌ فهو له‌ علي‌ أكمل‌ الوجوه‌ ثابت‌؛ و كل من‌ نطق‌ عنه‌، لا به‌، و نفي‌ عنه‌ كل أمرٍ مشتبهٍ، و حصره‌ في‌ مدركه‌، فهو أبكم‌ ساكت‌ و جاهل‌ مباهت‌، حتي‌ يري‌ به‌ كل ضدٍ ذو نفس‌ ضده‌؛ بل‌ عينه‌، مع‌ تميزه‌ بين‌ حقيقته‌ و بينه‌. وحدته‌ عين‌ كثرته‌، و بساطته‌ عين‌ تركيبه‌، و ظهوره‌ نفس‌ بطونه‌، و آخريته‌ عين‌ أوليته‌. لا ينحصر في‌ المفهوم‌ من‌ الوحدة‌ أو الوجود و لا ينضبط‌ بشاهد و لا مشهود له‌ أن‌ يكون‌ كما قال‌، و يظهر كما يريد، دون‌ الحصر في‌ الاء طلاق‌ و التقييد. له‌ المعني‌ المحيط‌ بكل حرف‌، و الكمال‌ المستوعب‌ كل وصف‌. كلما خفي‌ عن‌ المحجوبين‌ حسنه مما توهم‌ فيه‌ شينٌ أو نقص‌ فإنه‌ متي‌ كشف‌ عن‌ ساقه‌ بحيث‌ يدرك‌ صحد انضيافه‌ إليه‌، ألفي‌ فيه‌ صورة‌ الكمال‌، و رأي‌ أنه‌ منصة‌ لتجلي‌ الجلال‌ و الجمال‌. سائر الاسماء و الصفات‌ عنده‌ متكثرة‌ في‌ عين‌ وحدةٍ هي‌ عينه‌، لا يتنزه‌ عما هو ثابت‌ له‌، و لا يحتجب‌ عما أبداه‌ ليكمله‌.
وقال: وقولنا: وجود هو للتفهيم‌؛ لا أن ذلك‌ اسمٌ حقيقيٌ له‌. بل‌ اسمه‌ عين‌ صفته‌، و صفته‌ عين‌ ذاته‌، و كماله‌ نفس‌ وجوده‌ الذاتي‌ الثابت‌ له‌ من‌ نفسه‌؛ لا من‌ سواه‌؛ و حيوته‌ و قدرته‌ عين‌ علمه‌؛ و علمه‌ بالاشياء أزلاً عين‌ علمه‌ بنفسه‌؛ بمعني‌ أنه‌ علم‌ نفسه‌ بنفسه‌؛ و علم‌ كل شي‌ء بنفس‌ علمه‌ بنفسه‌. لان كل شي‌ء هو من‌ شئون‌ ذاته‌ تعالي‌ 4 فإذا علم‌ نفسه‌ بجميع‌ شئونها، فقد علم‌ كل شي‌ء من‌ عين‌ علمه‌ بنفسه‌.
-نص شريفٌ عزيز المنال‌: غيب‌ هوية‌ الحق إشارة‌ إلي‌ اطلاقه‌ باعتبار اللا تعين‌؛ و وحدته‌ الحقيقية‌ الماحية‌ لجميع‌ الاعتبارات‌ و الاسماء و الصفات‌ و النسب‌ و الاء ضافات‌، هي‌ عبارة‌3 عن‌ تعقل‌ الحق نفسه‌، و ادراكه‌ لها من‌ حيث‌ تعينه‌. و هذا التعقل‌ و الادراك‌ التعيني‌ و إن‌ كان‌ يلي‌ الاءطلاق‌ المشار اليه‌؛ فإنه‌ بالنسبة‌ إلي‌ تعين‌ الحق في‌ تعقل‌ كل متعقل‌ في‌ كل تجلي‌ تعين‌ مطلق‌؛ و أنه‌ أوسع‌ التعينات‌ و هو مشهور الكمل‌، و هو تجلي‌ الذاتي‌؛ و له‌ مقام‌ التوحيد الاعلي‌، و مبدئية‌ الحق يلي‌ هذا التعين‌. والمبدئية‌ هي‌ محتد الاعتبارات‌ و منبع‌ النسب‌ والاضافات‌ الظاهرة‌ في‌ الوجود، و الباطنة‌ في‌ عرصة‌ التعقلات‌ و الاذهان‌، و المقول‌ فيه‌ إنه‌ وجود مطلق‌ واحد واجب‌ هو عبارة‌ عن‌ تعين‌ الوجود في‌ النسبة‌ العلمية‌ الذاتية‌ الاء لهية‌. و الحق من‌ حيث‌ هذه‌ النسبة‌ يسمي‌ عند المحقق‌ بالمبدأ لا من‌ حيث‌ نسبة‌ غيرها. فافهم‌ هذا و تدبر، فقد أدرجت في‌ هذ النص أصل‌ اصول‌ المعارف‌ الاء لهية‌. والله‌ المرشد.
قال سيدي علي وفا: والوجود كل شيء وله كل شيء وهو وجود كل شيء فكل شيء كل شيء وله كل شيء وإن ظهر بشيء من جهة شيء فبطن به من جهة شيء آخر حكم بنفيه وسلبه من حيث بطن به وبإثباته ووجوبه حيث ظهر به، وهو الحق وكل حكمه حق  {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} هذه وحدته {وهو بكل شيء عليم} هذا جمعه لأن العالم ذات تعين بمعلومه، والفرق {وهو معكم أينما كنتم}، ولسريان الوحدة في الجمع لا يرجع عند التحقيق إلا إليها، هل أنت سوى ذاتك؟ وما ثم إلا ذات، أليس متعينك ذات؟ وتعينك أيضا أليس؟ فما ثم إلا ذات، ولسريان الجمع في الفرق لا يرجع الفرق عند التحقيق إلا إلى الجمع، هل معك أينما كنت إلا وجودك؟  فإنك تكون حيث تراك مع قطع النظر عما سواك ولكل مقام مقال ولكل مجال رجال.
ويا أيها المفروق إذا وجدت من يهديك بالحق المبين فاعلم أنه عين حقك المبين أتاك من حيث تتمكن من التحقيق الظهوري به فإن المحبة توجب تحقق المحب بمحبوبه فاشهده من حيث ترى وجوبه الحقي إلهك وربك وهاديك المتحول لك في صورة تعرفه بها وعامله على شاكلة ذلك، ومن حيث ترى إمكانه الخلقي فاشهده إمام هدايتك ومربيك ومرشدك المنبعث لك من الجناب الإلهي المخصوص به وعامله على شاكلة ذلك.
وقال: المرتبة القابلة الذتية لذاتية الذات بالذات هي قابليتي، وعينها فقير متجرد غني على الإطلاق قال له مقبوله: "أنت لي وحدي"، وقال فيه:
الفقر تجريد الوجود عن النسبحقا فهذا لا تقيده الرتب
فاشهد فقيراً هكذا تشهد بهأحدية التجريد ما فيها ريب
فلذلك ما اعترضتني نسبة قيدية مرتبية إلا وجد بمرصدها مانع لي منها ولها مني، فلا أتقيد بها وهذه غربتي الأحدية فما من مرتبة إلا وهي تعشقني بالذات وتعجز أن تقوم معي بالذات لأن ذات مرتبتي تفيد وجود المراتب جميعا في ذات نسبها وتقتضي بذاتيتها محض عدمية المراتب حميعا تحت سلطان تجرد أحديتها فجاءت المراتب عني من الأول وعجزها عني من الثاني.
وقال أيضاً: الوجود هو العين والمعنى وهو الكل بالحقيقة ما ثم سواه، فإن شئت فاشهده وسمه ذاتاً، وإن شئت فاشهده وسمه صفةً، ومهما شئت فاشهده وسمه فإنك لا تشهد ولا تسمي إلا إياه، وهو حقيقتك وأنت هو، فهو يشهد نفسه ويسميها كيف شاء وأحب وأراد واقتضى واختار فافهم.
وقال أيضاً: من ظهر وجوده في موجوديته الناطقة بحكمه الإلهي أكمل مما ظهر في كل موجود في زمانه فوجوده الإلهي هو مستحق اسم الله في زمانه، كما أن موجوديته الإمكانية المعنوية بمظهريته كذلك مستحقة كل اسم إمكاني مخصوص بالله كرسوله ونبيه ووليه وحبيبه وخليفته أكمل استحقاق، ومجموع هذا الموجود ووجوده هذا هو الله ورسوله معاً.