قال الشيخ محمد بن أحمد البوزيدي في الآداب المرضية:
واعلم أن أهل العلم بالله الراسخين فيه لا يشهدون نفوسهم لفنائهم في ذات الله تعالى، ومن دونهم في الرسوخ كل واحد بحسب مقامه، كما أن أهل المراقبة يشهدون وجودهم بوجودها، لكن وجودهم ثابت بإثبات نفوسهم، وهم في ذلك مقامات: فأهل العلم بالله تعالى لا يثبتون إلا ما هو ثابت، وهي الذات الشريفة العالية المنزّهة عن أوصاف الحدث. والذات إن ثبتت لا يمكن أن يثبت معها شيء قط، بخلاف إثبات الصفات عند سادتنا أهل الظاهر؛ فإن الأشياء ثابتة عندهم، موجودة في نظرهم، قائمة بقدرة الله تعالى، وإثباتهم لها بسبب ظهور فعلها لا غير، ولولا ظهور فعلها ما عرفوها. فمنهم: من يرى الفعل عين الصفة، فيفنى عن الفعل لعلمه بأن ذلك هو الصفة. ومنهم من يرى الفعل أثر الصفة، فيفنى في الصفة حقيقة، فيكون باطنه فانياً في الله بلا علم، وظاهره باقياً بنفسه، وببقائها تثبت الأكوان، لكن تظهر أخلاق حميدة وكرائم وأحوال إثر فناء باطنه في الله.
كما أن صاحب الفناء في العلم يقرب مقامه من هذا، وله أخلاق أيضاً وأحوال وكرامات، لكن لا تلحق الذي فوقه، وعند نفسه أنه في الغاية الذي فوقه، وهكذا، كما أن المستشرف على الذات الذي هو أعلاهم يزعم أنه في الغاية، ولذلك تراه ينكر الوسائط والأسباب التي بها دخل وإليها يخرج إذا انتهى أمره واستقر حاله. وذلك الإنكار إنما هو لبقية في النفس فتلك البقية هي التي تحجبه عن الكمال وإذا وصل واستقر في العلم بالله رأى الوسائط والأسباب بهم عرفت المعنى الشريفة، وهم أنوارها وأدلتها عليها بها لا معها، فيتحقق ويتيقن أن لولا ظهور أثرها منها معها لا عليها لما عرف قدرها ، ولبقيت كنزاً مطلسماً. فأول ما يظهر له وجوده ثم سائر الموجودات بالله لا بها، فيتأدب مع وجوده ومع وجود الكائنات، ولا يرى أدبه معها بنفسه، بل ذلك الأدب بربه، إذ لا نفس له من حيث لا وجود له.