قال في الحكم العطائية: ادفن نفسك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه:
وقال سيدي أبو الحسن الحجازي في شرحه: أراد رضي الله عنه بهذه المقالة تجريدك عنك ودوام الإخلاص له، فإنه ما دام السالك ملتفتاً إلى مقام، أو حالة، أو شهرة، لا يصلح لمقام المحبة الذي هو أعلى المقامات، وإلى هذا المعنى أشار العارف الكبير سيدي رسلان الدمشقي رضي الله عنه بقوله: "ما صلحت له ما دامت فيك بقية لسواه"، فمن كان فيه بقية لا يتم نتاجه، لأن الفقير من تجرد عن الصور الحسية والمعنوية، وحجب عن الأغيار، واحتجبت عنه بالكلية.
وقال سيدي صفي الدين أحمد القشاشي: تقدم في الحكم أن الأعمال صور قائمة وإن تنوعت، وروحها؛ أي قيومها وحياتها، سر وجود الإخلاص لله فيها. نبهك الشيخ رحمه الله على أنك لست على إخلاص لله ما لم تكن في بدايتك ودوامك خامل الذكر منقطع الأنانية حتى عن الإخلاص ونفسك كالنبات المدفون للإنبات، فلا بد وأن يتخلى النبات عن كونه الأول لما يتكون فيه ثانيًا وإلا فلا يتم. فكذلك أنت كونك له لا لك هو المقصود من الإخلاص؛ لأنك كون من الأكوان، بل أنت كل الأكوان؛ لأنك متى فقدتك فقدت الكل من باب الأولى ومتى وجدتك وجدت الكل من باب الأولى، فمن جملة إخلاصك الله في عملك وفيك عنك أن تتكلف الخروج عنك الله بدفنه أوّلًا تكلّفا.
واعلم أنه لا أضرّ على السالك إلى مولاه فيما أولاه من الشهرة وحب الجاه، ولهذا لما ظفرت الرجال بخبر الخمول استصحبوه حتى فروا من الناس قاطبة في علاج أنفسهم؛ لأنهم كلما طببوها من مرض ظاهر ظهر مرض باطن، والأمر دائر ما بين ظاهر وباطن ، فكلما ابتلوا بعلة استعانوا بالله على طبها... فبعض مما في شأن الخمول هو الثناء الإلهي على أهله، وهذا لتعلم أن أهل الله لا يأمرون إلا بالأخلاق الإلهية الموجبة لرضاء الله الحاملة للابسها إلى حضرة قرب الله بدوام الله فلهذا يطيب عيشهم مع سقوطهم في أعين العباد لنظر المعبود إليهم وهو المراد ، فعليك بما يدعونك إليه ؛ فإنهم لا يدعونك في كل ذلك إلا لله ولا يريدون فيك ومنك غير وجه الله.
وقال سيدي أبو المواهب الشاذلي قدس سره: خمول العارف هو خفاؤه بفنائه في وصف الربوبية واضمحلاله في حضرة الفردانية، وهذا معني انطواء وصف العبودية الجزئية في حيطة إحاطة الألوهية الكلية، وذلك أن العارف إذا صح له مقام الفناء بحضرة البقاء كان بوصف سیده لا بوصف نفسه، وصدق علیه معنی" "فإذا أحببته كنت هو".
قال الأستاذ أبو العباس المرسي قدس سره: لو کشف عن أوصاف الولي لعبد لأن أوصافه من أوصاف الله ونعوته من نعوت الله، ومعنى هذا النعت والوصف هو أن يأخذ الله الولي من وجود النقص البشري إلى وجود الكمال الإلهي من غير سبب فيخلع عليه خلعة وصف القدسية وغمسه في حضرة نعت النورانية فغلب عليه عند ذلك أنوار الأفق المبين والارتقاء إلى مقام عليين، فظهر بظهور تغلب عليه فيه الأنوار حتى صار خافيا في مزايا الأبصار.
أما ترى النجم يحل المقامات العلوية بذاته ، ويشرق في المراكز التحتانية بصفاته ، فيصير بهذا الاعتبار كلما ارتفع مقامه صغرت في مرايا الأبصار برؤيته؟ وهذا الخفاء الذي هو معنى الخمول جعل الله ستره على أبصار العقول لغشاوة عالم التركيب حكمة بالغة وقدرة قاهرة . قال الأستاذ الكبير سيدي محمد وفا قدس سره:
فلا تستقل العارفين فإنهم قليل وفي المعنى لديك كثير
لقد خملوا في عالم الجسم حكمة إلهية فيها العقول تحیر