قال الشيخ نجم الدين داية الرازي:
اعلم أن الله لما أراد وأحب أن يعرف خلق الخلق ليعرف، كما قال: "كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق"، فخلق بقدرته الكاملة وحكمته الشاملة شجرة المخلوقات بأسرها، علويها وسفليها، ملكيها وملكوتيها، غيبيها وشهاديها، ثم جعل ثمرتها آدم عليه السلام.
فكما أن الثمرة تكون سلالة استلت من جميع أجزاء الشجرة، كذلك كانت حقيقة آدم عليه السلام، استلت من جميع أجزاء المخلوقات، غيبها وشهادتها، فكان زبدة العالمين وخلاصتها، مع زيادة لم توجد فيها، وهي ما شرف به آدم وأكرم بكرامته من الروح المشرف بتشريف إضافته إلى الحضرة، وبالنفخة الخاصة، كما قال تعالى: {ونفخت فيه من روحي}.
ولما كان الله عالم الغيب والشهادة، وأراد أن يعرف، جعل من شخص آدم عليه السلام مرآة مركبة من الغيب والشهادة، قابلة لتجلي ذاته وصفاته، لها صورة كثيفة من عالم الشهادة، ومعنى لطيف من عالم الغيب مستعد لقبول الفيض الإلهي بالتجلي، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صورته" فتجلى فيه ليكون بالخلافة عالم الغيب والشهادة حتى يعرف نفسه أنها مرآة يتجلى الله فيها، فيعرف الله.
فإنه من عرف نفسه بالمرآتية عرف ربه بربه، وهذا سر قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها}، وحقيقتها للأسماء هي ذات الله وصفاته، وتعليمها لآدم بتجلي مسمياتها فيه. ثم إنه تعالى جعله متصفاً بصفاته، فعلمه اسم وحدانية ذاته بوحدانية نفسه، لأنه كان وحدانياً في ذاته وصفاته إذ لم يكن معه في المخلوقات آدم آخر، وعلمه بتجلي حياته فيه أنه حي، وبسمعه أنه سميع، وببصره أنه بصير، وبكلامه أنه متكلم، وبعلمه أن عليم، وبقدرته أنه قادر، وبإرادته أنه مريد، وببقائه أنه باق.
فهذا معنى اختصاصه بالخلافة في الأرض كما قال تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة}، فاختصاصه بالخلافة في الأرض بأن جعل روحه مرآة قابلة لصفاته تعالى في عالم الأرواح خلافة عنه تعالى، بأن كان سميعاً بصيراً متكلماً حياً عليماً قادراً مريداً، باقياً، وجعل قلبه مرآة قابلة لصفات روحه في عالم الملكوت خلافة عن الروح، وكذلك جعل قالبه مرآة قابلة لصفات قلبه في عالم الأجساد خلافة عن القلب بأن يكون سميعاً بصيراً متكلماً حياً عليماً قادراً مريداً باقياً.
فإن الله تعالى لا يتجلى لشيء كما يتجلى لمرآة قلب الإنسان، وليس في العالم مصباح يستضيء بنار نور الله فيظهر أنوار صفاته في الأرض خلافة عنه إلا مصباخ سر الإنسان، فإنه مستعد لقبول فيض نور الله لأنه أعطي مشكاة جسد فيها زجاجة قلب كأنها كوكب دري من نور العبل، الذي هو شعاع زيت الروح، وجعل في زجاجة القلب مصباح السر وفي مصباح السر فتيلة الخفي وهو السر السر، فإذا أراد الله أن يجعل في الأرض خليفة تجلى بأنوار جماله وجلاله لمصباح سر الإنسان فيهدي بنوره من يشاء فيستنير مصباحه بأنوار ذاته وصفاته تعالى.