قال سيدي أبو بكر البناني في رسائله:
اعلموا وفقكم الله أن مراد الله من تبديل الجمال بالجلال والبسط بالقبض والرخاء بالشدة هو معرفته تبارك وتعالى، إذ بتبديل الشؤون والأطوار تعرف ربوبية الواحد القهار، ولو أن الربوبية ظهرت بلون واحد لفات العلم بكمالاتها. ولذلك تقول الصوفية: "صاحب علم واحد محروم"، فالكمال في معرفة الضدين لأن الشيء كامن في ضده ، فمن لم يعرف الله في الجلال والجمال لم يعرف الله معرفة كاملة، على أن الجلال عند العارف هو الجمال إذ الموصوف بالصفتين واحد لكن صورة الأثر هي التي فرقت.
وبالجملة، فاعرفوا مراد الله من التلوين ليمنحكم أسرار التمكين ولا تفزعوا من الفتن فإن ذاكر الله لا ينال هول الفزع الأكبر لأن من اشتغل بالله كفاه الله كل قاطع. وقد قيل: إن الله عباداً هم في وسط الفتن وهي لا تضرهم مثل خزنة جهنم هم في وسطها وهي لا تضرهم لأن نار جهنم إنما تحرق من الإنسان ما كان خبيثاً، والملائكة لما كانوا على أكمل الطهارة لم تضرهم النار وهم في وسطها. كذلك ذاكر الله قد ذهب والله خبث نفسه لذوبانها تحت المتجلي لها فلم يبق ما تأكله نار الفتن لأن النفس هي التي تجزع من آثار الجلال، وأما من فاض ظاهره بفيضان باطنه بحيث عمت روحانيته جميع وجوده فلا يقدر على الفرق بين أثر الصفتين إذ تحقق أن المتجلي واحد، ولهذا السر اللطيف كان الشيخ مولانا العربي رضي الله عنه يقول: الداهية لا تصيب ذاكر الله.
واعلموا وفقكم الله أن ما ينزله الحق بالوجود من أنواع المحن على طبقاتها كله فيه تعريف لصاحب الشعور، إذ لا تخلو عن إفادة علم بالله تعالى وما يفيد العلم بالله كيف ينكره أحد، والله ما أنكر الوجود آثار الجلال إلا لعدم معرفته بمقتضاه وبثمراته فلا تجهلوا الحق في شيء يرحمكم الله. على أنه قد قيل: "لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد رقاب المنافقين" فالفتن والمحن معيار يميز الله بهما الأبرار من الفجار، قال الله العظيم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوا أَخْبَارَكُمْ}، فجاهدوا أنفسكم في تلقي ما ورد من الغيب بالقبول واستعينوا بالصبر والصلاة. وقد علمتم أن الوجود كله يدعي التحقيق في معرفة موجده، فإذا تعرّف الحق لعبيده أقرّه أهل الصدق بالرضى بأحكامه وأنكره أهل الدعوى بالاعتراض عليه في أحكامه فباؤوا بغضب على غضب فاتقوا الله وسلموا له الحكم إن كنتم إياه تعبدون.