قال الشيخ محمد بن عمر بن حشيبر، خليفة الشيخ أبو الغيث بن جميل اليمني، في كتابه منثور الحكم:
اعلم أن الذاكر لله تعالى مع حب الدنيا ظالم، والملازم للذكر والفكر مع الترك لها خوفاً من النار وشوقاً إلى الجنة مقتصد، والذاكر نصباً لله تعالى خالصاً لله بلا علة سابق. فدقق النظر أيها المتشوق إلى رتبة الخواص، واعلم أن التبري من الحول والقوة خاص الإخلاص. فالسابق يدل على الواحد بجذبة الواحد الذي ليس كمثله شيء، صورته متلاشية وسره يسمع كلام مولاه بلا كيف ولا أين، فهو في كسر وانجبار، وفقر وافتقار، لا يجد في ما حواه العرش مقعداً ولا في السبعين ألف حجاب مقصداً.
واعلم أن الذكر والفكر والمراقبة سفينة تحمل المريد إلى الحضرة، والتسليم والتفويض يدله على التبرؤ من وجوده بلا حول ولا قوة إلا بالله، كنه العبارة عن حاله إشكال، ومكان صورته قد استحال، ظاهره مع الخلق، وباطن حقيقته في حضرة الحق، لا يتحرك إلا بالقرآن، ولا ينظر إلا إلى الرحمن. فيا من يتشوق لما عليه الصديقون، عليك بقطع الأمل، ونسيان العمل لتحظى بالنظر إلى الملك القدوس بعد إفناء النفوس.
ومن علم أنه مع الأنفاس ملحوظ بعين العناية، وعلم حضور مولاه معه في كل حين، لم يأت شيئاً محظوراً شرعاً، ومن نظر بعين قلبه نور ربه لم ير مباحاً ولا محظوراً، ومن سلّم لله سلم قلبه من رؤية الأغيار والأضداد والأنداد، وعاش سليماً لا يتغير بتعاقب الليل والنهار. وحينئذ صح توجهه إلى القبلة التي ليس لها أمام ولا خلف ولا فوق ولا تحت ولا أين ولا كيف ولا ثم، إلا بمجاز عبارة {فأينما تولوا فثم وجه الله}.
فإذا عرفت هذا فاعلم أن الشريعة والحقيقة بحران ساحلهما واحد {وبينهما برزخ لا يبغيان}، والفعل والمفعول حجابان، فإذا طلعت شمس نور العظمة اضمحلت آلات الحس، وعمت شمس الذات فأذهبت جميع الأفياء واللبس، واستراحت الأرواح من قيود الأشباح، وغرد طائر الفقر على فنن سدة منتخى حضرة القدس بألحان سر الأحدية، ومن عاين باين، فألقى ألواح علم العبارة وحضر في الحضرة الأزلية والراحة الروحانية، ولم يكن شيئاً مذكورا.
وليس لسالك سبيل إلى ما ذكرناه إلا بترك ما سواه تعالى من العلم والمعلومات، والاعمال الدنيات والمباحات والمحظورات، فإذ لم يبق له في الدارين حاجة، ولا في الإرادات إرادة، توفاه الله عن حسه، وآنسه بقدسه، فخرج من قفص حجاب الأكوان إلى قرب المنان، ونسي الزمان والمكان، ومن ثم وجب على المحقق امتثال الأمر، وتقييد النعم بالشكر، وسماع قول من إليه يرجع الأمر: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}. والغرض كل الغرض: {الله نور السماوات والأرض}، ليس لغيره شهود ولا وجود والسلام.