قال الشيخ نجم الدين دايه الرازي في منارات السائرين:
اعلم أن الروح الإنساني لما خلق في أحسن تقويم وهو استعداد قبول الفيض الإلهي بلا واسطة، وهو متفرد بهذه الرتبة من بين سائر المخلوقات وذلك لأنه أول شيء تعلق به أمر {كن} في الإيجاد بلا واسطة وما سواه من المخلوقات فقد تعلق الأمر به بالوسائط.
ولما كان الروح أول مقدر تعلقت به القدرة كان أقرب الموجودات إلى الحضرة وكان في جوار رب العالمين، إلى أن رده الله إلى أسفل سافلين القالب الإنساني، أي أمره بالتعلق به. ولا تظنن أن كيفية تعلق الروح بالقالب ككيفية تعلق عرض بجسم ليكون له الدخول والخروج والصعود والنزول، بل تعلقه بالقالب بنفخ الحق فيه بلا كيفية ولا تشبيه كما نطق به القرآن والحديث. فأما حقيقة رد الروح إلى أسفل سافلين القالب بأن رد وجهه الناظر الذي كان به ناظراً إلى الحضرة إلى جهة تربية النطفة فصار بهذا الاعتبار مقبلاً على القالب وحظوظه مدبراً عن الحضرة وحقوقها فباعتبار توجه الروح إلى القالب بالأمر وشغله بتربية القالب عبر عن قوله: {ثُمَّ رَدَدْتَهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} وإلا فالروح ما تحرك من مكانه في جوار الحق تعالى، ولهذا قال تعالى: {وَنَحنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.
فلو نظرنا إلى أصل فطرته وأنه أول مقدور تعلقت به القدرة فهو أقرب الأقربين إلى الحضرة، ولو نظرنا إلى رده بالتوجه إلى أسفل سافلين القالب لشغل رتبته فهو أبعد الأبعدين عن الحضرة... لأنك إذا اعتبرت الموجودات وجدت أبعدها عن الحضرة عالم الأجسام، فصورة قالب الإنسان أبعد المركبات عن الحضرة فهو أبعد الأبعدين ، وروحه أقرب الأقربين إلى الحضرة وما كان شيء في عالم الأجسام علويها وسفليها إلا وقد ركب في قالب الإنسان ما هو زبدته، وما من شيء في الحضرة إلا ونفخ في الإنسان أنموذج منه.
فبهذا الاعتبار يوجد في رجوع النفس إلى الحضرة رجوع القلب والروح وجميع وجوده ولا يوجد في رجوع فرد من هذه الأفراد رجوع الجميع.