الوحدة أصل وجودي والتفرقة عارض من حيث التعين - سيدي مصطفى البكري

قال سيدي مصطفى البكري في كتاب مزيل الأحزان: 
اعلم أن الأرواح في المرتبة العلمية حروف مجتمعة لا تمايز بينها، كنقطة الحبر التي في رأس القلم فإنها حروف كثيرة لا تمايز بينها في تلك المرتبة من حيث إجمالها وإن كانت من حيث التخصيص الإرادي والتقدير العلمي الأزلي مفصلة، فيصدق أن يقول كل حرف منها للآخر: يا أنا، إذ وجودهم واحد. فإذا ظهروا في مرتبة التفصيل وقع التمايز في الصور لا الحقيقة، إذ الحقيقة لا تتبدل عما كانت عليه من الوحدة الذاتية، فإن تبدل الحقائق لا يكون. 
 هذا من حيث إجمال تلك الحضرة الغيبية فثبتت وحدة وجودهم، وأما من حيث تفصيلها قبل ظهورهم في الرتبة العينية كان تفصيل الحروف من حيث مراعاة الترتيب التقديري حاصلاً. فمن كان من تلك الحروف مواجهاً للآخر مواجهة تامة حصل بينه وبين الآخر ألفة تامة، ومن كان ملاصقه كانت ألفته بقدرها، ومن كان ظهره لظهره كانت بينهما مباينة كلية. ثم لما تموج بحر تلك الحروف تموج ظهوره من عدم إلى وجود تقديريين واجه كل حرف حروفاً على قدر ما أعطاه ذلك المعلوم للعلم من استعداده، فكان التجلي على قدر استعداد المعلوم فإن التجلي والعلم لا ينحصران، وإنما المنحصر المعلوم والاستعداد، ومن هنا كانت الحجة البالغة لله فافهم.
 فوقعت الألفة على قدر تلك المواجهة التي حصلت هناك، ولما برز كلّ واحد منهم في عنصره وتركيبه لم تكن الروح من حيث حقيقتها لعهد تلك الألفة ناسية غير أنها لم تكن لسرّ ذلك فاشية،  فلا تزال خميرة تلك الألفة تدور فيها، وهي طالبة أن تستقي من صافيها، حتى تقع العين الباصرة على حقيقة من تلك الحقائق فتنقاد للأخرى، ويزول تناكرهما البيني، ويحصل تعارفهما العيني، إلى الأبد وترجع الألفة التي لم تكن زالت من الأبد إلى الأزل، ولا صعد أحدهما على صاحبه ولا نزل، فإذا اتحدت العين بالعين من غير اتحاد، زال حكم البين والأين ولا زوال إذ لا وجود لهما لدى الأفراد. ومن رسخت معرفته ونظر إلى توحّد الوجود من حيث الحقيقة لا الصورة، شهد مرتبة الإطلاق لا المرتبة المقيدة المحصورة، فعربد في سكره إذ نال من مناه المنا، وقال: أنا من أهوى ومن أهوى أنا.