قال سيدي علي بن ميمون الغماري الشاذلي قدس سره في نحو القلوب:
الْحَقِيقَةُ الْمُحَمَّدِيَة هي مدينة الْعِلْم القديم، ومن أسرار علم هذه المدينة ما ألهمت إليه ومدت به من الكلام المنقسم إلى ثلاثة أقسام، ومن باب كلامها تكلمت جميع الأَلْسُن، كَمَا أَن من باب سماعها سمعت الأسماع، وبصرت الأبصار، وفهمت الأفهام، وشكرت القلوب، وسَبَّحَتِ الأَرواح، وعلمت الأشباح، ثم جاءت هذه الجوهرة اليتيمة والجوهرية الواحدة الأحدية المكوَّنة المكنونة العظيمة بِأَكْرَم مِلَّةٍ إلى خير أُمَّةٍ، وهي حقيقة متعبد بها، وهي الملة المحمدية وهي السبيل القديم وهي الصراط المستقيم.
وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: شريعة وطريقة وحقيقة، قال رسول الله ﷺ: "الشريعة مقالي والطريقة فعالي والحقيقة حالي". فجاء بحكمة ذات ثلاثة أقسام جارية على حكمة ذات ثلاثة أقسام ، فالحكمة الأولى الجارية الوحي المنطوق به شريعة وطريقة وحقيقة، والحكمة الثانية المجري عليها الكلام المنقسم إلى ثلاثة أقسام الإسمية والفعلية والحرفية. وفي هذه القسمة الثلاثة البديعة التي نوعت بها هاتان الحكمتان العظيمتان: الوحي القديم والكلام اللفظي المحدث الآتي بهما سر الوجود ﷺ إشارة إلى الحقائق الثلاثة الوجودية، وهي: حقيقة موجودة بنفسها غير مُفْتَقِرَة إلى المحلّ، وحقيقة موجودة بغيرها غير مفتقرة إلى المحلّ، وحقيقة موجودة بغيرها مفتقرة إلى المحل.
فالموجودة بنفسها غير مفتقرة إلى المحل وهي الذات العلية الأزلية الدائمة التي كانت ولا شيء مَعَهَا، وهي الآن على ما كانت عليه من الوجود والصفات المنزهة المقدسة والأسماء العلية الزكية والأفعال البديعة العلية بصنع الله الذي أتقن كل شيء، وهو بكل شيء عليم.
والحقيقة الموجودة بغيرها المفتقرة إلى المحلّ هو العرض فهي موجودة بغيرها مفتقرة إلى المحل، والحقيقة الموجودة بغيرها التي لا تفتقر إلى المحل هو الجوهر الفرد.
فحصل من هذا أن الحقيقة الموجودة بنفسها الأزلية المنزهة عن المحل الموجودة على الإطلاق أوجدت الوجود المقيد وهو الجوهر والعرض، ونتيجتها الحقيقة المحمدية، التي هي سر الوجود المطلق وعين الوجود المقيد من الجوهر الفرد فما بعد، المفتح اسم من أسمائها الأرضية بميم الملك المختتم بِدَالِ الدوام، وتحلت الحقيقة الأزلية الأبدية في الحقيقة المحدثة الغائية الجوهرية العرضية السرية بثلاث حقائق.
فالثلاث المتجلى بها الشريعة والطريقة والحقيقة. والثلاث المتجلى فيها أقسام الكلام الثلاث. والشريعة والطريقة من صفات الحقيقة القديمة الباقية ثم ظهرت صفاتها أي الحقيقة القديمة في الحقيقة المحدثة، واتصفت بها وصفاً عَجَزَتِ العقول عن قرب وصفها وإدراك فهمها، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.