قال سيدي محمد المدني، خليفة سيدي أحمد العلاوي، في كتابه منهل التوحيد، وهو كتاب وضعه في شرح أرجوزة له، عند قوله:
واشْرَبْ قَدِيمَ الخَمْرِ مِن كَأْسِ الوَرَى فَعِلْمُنا بِغَيْر ذَوْقٍ لَا يُرَى
اشْرَبْ أَيُّها المُريدُ الخمرَ العَتيقَ مِن كُؤوس المظاهر الكونية، وَلَا تَخصيص للوَرَى. فَكُلُّ ذَرَّةٍ في الكون كَأْسٌ تَتَدَفَّق بالخمرة اللدنية، ومَظْهَرٌ للتّجليات الإلاهية. فإن أردتَ أَيُّهَا المُريد أن تَفهَمَ هَذَا الفَنَّ، وتُدرك حَقيقَةً معناه، فَلَا بُدَّ لَكَ مِن شَرَابِهِ والارتشاف مِن كُؤُوسِه والاغتراف بِأَكْوَابِهِ. وَمَن أرَادَ الوصول إليه والاطلاعَ عَلَيْهِ مِنَ الكُتب والأوراق ، فَلَا يَحْصُلُ مِنهِ إِلَّا عَلَى مَا تَتَلَفَّظ به الأشداقُ، فَإِنَّ هَذا العلم لا يُرَى، َولَا يُعْلَمُ، وَلَا تُدْرَكُ حَقِيقَتُهُ إِلا بِالقَلبِ السَّليمِ الطَّاهِرِ مِن وُجودِ الغَيْر، والذوق المُستقيم الممنوح من حَضْرَة العليم الخبير.
ثم قَالَ: وَخُضْ بِحَارَ النُّورِ حَيْثُ لَا ابْتِدَا ولا هناكَ غَايَةٌ طُولَ المَدَى
يعني : خُضْ أَيُّهَا المُريد بحار النُّور التي لا ابتداء لَهَا وَلا غَايَةَ، فَإِنَّ نورَ اللهِ، لا غَايَةٌ لَه ولا وَصْفٌ. إِنَّما هَذا البَحرُ المُحيط بجميع العوالم، وكلُّها بِالنِّسْبَة إِلَيْه أي: بالنسبة لبحر القِدَمِ، أَوْ نَقُول: بِالنِّسبَة لِعَظَمَةِ اللهِ، أَقَلُّ مِن ذَرَّةٍ وأَحْقَرُ.
ويُسَمَّى هذا البحرُ بِبَحر الجَبَرُوتِ، وعَالَمِ الغَيْبِ. واستمداد جميع القوم من هذا البحر، وهوَ بَحْرُ رَسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الذي عِلْمُهُ مُوحَى بِهِ إِلَيهِ من عالم الغيب، سُبحانه، وإلى ذلك يُشير الإمام البوصيري بقوله:
لَكَ ذَاتُ العُلوم مِن عَالَمِ الغَيْب ومنْها لآدَمَ الأَسْمَاءُ
وقوله:
وزج بالأكوان في ضَمِير كُنْ فِي فِعْلِهِ الضَّمِيرُ حَقًّا مُسْتَكِنٌ
كذاكَ كُن في كُنهها كي تلفي لا موجود إِلَّا وَاحِداً قَدِ انْجَلَى
بَعدَ أَنْ ذَكَرَ مَا يَتَّصِفُ بِه المُريدُ أَوَّلاً مِنَ الغَيْبَةِ عَن العوالم والأكوان والخوض في بحارِ الغَيْبِ والجَوَلان، رَجَعَ الآنَ عَلى الأكوان بِالفَناءِ والمَحْوِ، فَأَمَرَ المريد أنْ يَزُجَّ بِها أي يُدخِلَها في ضميرِ كُنْ "، أَيْ: فِي بَاطِنِهَا، فَإِنَّ جَمِيعَ العوالم والأكوان بَرَزَت وَظَهَرَتْ مِن كَلِمَة كُنْ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}، فَإِذا طُويت الأكوان في كلمة " كُن " وغابت فيها، فهل تبقى لها من باقيةٍ؟ كَلَّا إِنَّما هي مَمْحُوةٌ وفانيةٌ.
وفي البيت الثاني أمر المريد أن يرجع على كلمة " كُنْ "، ويَكُـرَّ عليها بالانطواء، فإنَّ المُرادَ بِكَلِمَة " كُن" هِي صِفَة الكلام، ولا شك أنَّ الكلام صفةُ المُتَكلّم لا تنفك عَنهُ، لِعَدَم مفارقة الصّفَة للموصوف، فإذا انطوت الأكوانُ في " كُنْ "، وانطوت كُن في كُنْهها، أَيْ غَيبها القديم، فَهَل يبقى مَعَ الله غَيْرُه؟ كَلَّا فَما في الوجود إِلَّا بِرُّهُ وخَيْرُهُ ، وتَجليهِ وظهوره، فما تلفي وتجد إلا واحدًا قد انْجَلى، وهو الواحد في أزليته، ولا زال فَلا شَيْءَ معه، ولا وجود لغيره.