قال سيدي محمد بن أحمد البوزيدي في الآداب المرضية:
اعلم أن كل من رأيته قانعاً من الأحوال وراغباً في الأقوال فاستدل بذلك على أن قلبه محشو بحب الرياسة والجاه وحب الرفعة والثناء من الخلق وطول الأمل وكل ذلك من عمى البصيرة، نسأل الله اللطف. وما مرض أحد بهذه العلل إلا ومات قلبه، وهذا هو العلم الغير النافع، أعوذ بالله من علم لا ينفع.
ومن رأيته قليل العلم، كثير العمل، فاستدل بذلك على أن قلبه عامر بحب الله ورسوله ومراقبته وخوفه وهيبته وسطوته وحيائه. قد ضعفت حجبه الكثيفة وانتهى في القرب من ربه حتى صارت الآخرة نصب عينيه ولم يبق له التفات إلى العالم، بل ربما غاب في بعض الأوقات عن العمل لكثرة هيبة الحق تعالى وعظمته. وهذا هو العلم النافع الذي يردُّ به العبد إلى ربه ويقهره عن جميع الشهوات ويمنعه حب البقاء في هذه الدار الفانية فيرى الاخرة كأنها حاضرة والدنيا كأنها لم تكن، ولو كشف له عن عمره ورأى فيه ألف سنة لرأى ذلك كساعة واحدة فلا يغتر بالغرور ولا يميل إلى شهوات نفسه.
وصاحب هذا الحال وإن كان جاهلاً بكثير من العلوم فهو عالم على التحقيق، لأن العلم نور في القلوب يهدي إلى صراط مستقيم، كما أن الجهل ظلمة تهدي إلى ضلال مبين، فأي جهل لمن يخاف الله ويتقيه وأي علم لمن لا يخاف الله ولا يقف على حدوده. فاعمل يا أخي بما تعلم تتفجر حكم قلبك بمواهب ربك "من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم".
وأحسن صلاة جوارحك واحتفظ عليها جهدك ليصلي قلبك، لأن صلاة الجوارح وسيلة لصلاة القلوب، قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} يعني: صلاة القلوب لا صلاة الجوارح لأن صلاة الجوارح غايتها أن تنهى عن الفواحش الظاهرة ولا تنهى عن الفواحش الباطنة مثل الحسد والكبر والبغض والحرص وما أشبه ذلك، نسأل الله اللطف. والفواحش الظاهرة أخف من الباطنة وصاحبها يعرفها وينكسر من أجلها بخلاف الفواحش الباطنة فإنه لا يعرفها إلا من أخذ الله بيده وجمعه مع أرباب القلوب.
فطهر يا أخي قلبك لتصلي مع أرباب القلوب، وأما ما دام متنجّساً بأنواع الفحشاء والمنكر فلا تطمع أن يصلي صلاة واحدة، فضلا عن الصلاة الدائمة التي هي اتصال الحضور وملازمة السرور. فرغ قلبك من الشهوات، وامنع جوارحك من وجود الدعوى فإنها تجرّ البلوى. فرغ قلبك من الشهوات، وامنع جوارحك من وجود الدعوى فإنها تجرّ البلوى، ولم يحسن العبودية من طلب القرب مع حياة نفسه ويطلب الحضور مع ربه وهو حاضر مع غيره ويطلب حضور الله معه وهو لم يحضر مع الله في كل نفس ولحظة. فألزم يا أخي نفسك الحضور بالمجاهدة يطلبك العيان والمشاهدة، "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر بها" الحديث.