قال سيدي أبو بكر البناني في مدارج السلوك:
اعلموا إخواني أن جميع التكاليف الشرعية ما نصب ميزانها إلا لذكر الله تعالى، وبحسب الاستعداد يحصل الإمداد. فحافظوا إخواني وفقكم الله على حدود الشريعة وقفوا على مراكزها تغنموا خير الدنيا والآخرة، وما زاغ أحد عن أسرار الشريعة إلا زاغ عن أسرار الحقيقة. إذ الشريعة والحقيقة شمسان مطلعهما واحد وما ثم باب مفتوح يدخل منه الإنسان غیر باب رسول الله وما سواه من الأبواب لا وجود له أصلاً فلا يحكم عليه بفتح ولا غلق، إذ دائرة الباطل عدمية والعدم لا يقبل الحكم بوجه من الوجوه.
فتمسكوا بحبل الله المتين الذي هو مخالفة الهوى ومحبة المولى يمنحكم الله ما وعدكم به من الوقوف على نقطة وجودكم المعنوي إن الله لا يخلف الميعاد، واجتهدوا في هدم دعائم وجودكم الصلبي كي تحصلوا على بناء وجودكم القلبي. وأوصيكم بعدم الالتفات إلى قول أهل التعنت والإنكار فإن ذلك أعظم قاطع عن الله لما لا يخفى عليكم أن الداخل على الله منكور لأن الوصف الذي يعطي القرب من الله مباين للوصف الذي عليه أهل الحجاب والغفلة، فإذا أنكر الوجود على الفقير ما هو عليه فما ذلك إلا لوجود الفرق في الصفة وهي العادة وخرقها، وإذا أقر الوجود الفقير فما ذاك إلا لوجود المجانسة والمشاكلة وهي المشاركة في العادة.
فعليكم إخواني بذكر الله والغيبة عن إقرار العالم وإنكاره، وقد علمتم أن رضى الناس شيء لا يُدرك، وأحمق الناس من طلب ما لا يُدرك، فالاشتغال بالله تعالى مفوت للاشتغال بالعالم والعكس بالعكس. وقد قال تعالى في تربيتنا على لسان نبيه: {وَاعْبُدُ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}،فإذا جاء اليقين تحققت الحقائق وأدركتم سر ما انطوى عليه الوجود فإنه ما أنكرتكم إلا أنفسكم وما أقرتكم إلا أنفسكم من حيث التحقيق إذ الوجود كله مرآة لك ترى فيه صورة نفسك لكن خفي الأمر عنا من جهة التلبيس الذي أوجبته الحكمة الإلهية عناية بالسائرين إليه، ولولا ذلك التلبيس ما تحقق سير السائرين من حيث المعنى .
واعلموا أن ما أصابكم من الهم والغم والحزن من أجل مصادمة الوجود لكم إنما ذلك بسبب غفلتكم عن ذكر الله تعالى، ولو اشتغلتم بذكر الله لـدام فرحكم وقرّت أعينكم إذ الذكر هو مفتاح الفرح الأبدي كما أن الغفلة هي مفتاح الحزن الأبدي. وتأملوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصابه هم أو غم فليقل الله الله الله لا أشرك به شيئاً فإن الله يذهب همه وغمه" . فانظروا كيف دل صاحب الغفلة التي أوجبت له الغم والهم على ما يطرد ويوجب اليقظة وهو ذكر الله تعالى.
وليس المراد مجرد القول، بل المراد منه تحصيل المعنى المدلول عليه، وهو التوحيد الذاتي الذي يفيد مقام الوترية، فكأنه يقول لصاحب الغفلة التي أورثته الحزن والهم: اعرف الله ووحده ينقلب حزنك فرحاً ووحشتك أنساً وجلالك جمالاً وقبضك بسطاً.
وقد أفادنا الله بهذه السياسة أن الحزن منبعه وعنصره هو الإقبال على أنفسنا والفرح مورده ومصدره هو الغفلة عنها في الله والاسم عين المسمى فمن غاب عن نفسه انتفت شفعية وجوده بوجود ربه لأنه إذا تجلى القديم تلاشي الحادث، ومن وجد ربه وجد كل خير فيكون فرحه موصولاً إذ فرحه بالله كما أن مَن فَقَدَ ربه فقد كل خير واشتدت حسرته وكثرت همومه كثرة تشتت عليه قلبه لأن قرينه حينئذ شيطان مريد، فما تجده القلوب من الهموم والأحزان فلأجل ما منعت من الشهود والعيان.