قال الشيخ علي بن ميمون الغماري الشاذلي:
أول مراتب المحبة: مقام عوام المحبين؛ أحبوه أولاً بما أظهر لهم من الصفات وتأثيراتها، أعني لما تجلى لهم في عالم الغيب بتجلي الصفات الأفعالية كالتخليق والترزيق وغيرهما، وأظهر لهم في عالم الشهادة من تأثيرات التجليات الكونية، وهي ما أبدى لهم في عالم الشهادة من النعم وضدها من النقم، والصحة وضدها السقم وغيرها. وأخفى عنهم في عالم الغيب من التنعيم في الجنان والتعذيب في النيران، فأحبوه لما في يده من مرافق الدنيا ومنافعها العاجلة، ولما ادخر لأهل طاعته في الدار الآخرة. فحب هؤلاء يتغير ويتحول ويزداد وينقص بحسب ما يبدو لهم من محابهم الكونية، فإذا بدا لهم محبوبهم العاجل، وهي النعم العاجلة، ازداد حبهم، وإذا اختفى عنهم وظهر ضده وهي النقم ؛ نقص حبهم. وهكذا يكونون عند سائر التجليات. فحب هؤلاء حقيقة إنما هو لأنفسهم وحظوظها وأغراضها العاجلة، لا لله، لأنه لو كان لله لازداد وما نقص.
وثانيها مرتبة الخواص، أحبوه بما أظهر لهم من تجليات صفات ذاته سبحانه وأسمائه، وبما أدى لهم من مظاهر التجليات في ملكوت السموات ، فشاهدوها ببصائرهم مشاهدة يقينية ، ففطموا أنفسهم عن طلب حظوظها العاجلة والآجلة لأنه نِعَمَ خلقية وفنوا عنها بالكلية، حتى لم يبق لهم حظ في طلب شيء منها سوى النظر إلى المحبوب، وذلك غاية المطلوب. فحب هؤلاء لا يتغير ولا يتحول كحب العوام بل يتحول الخواص من المحبين من مشاهدة إلى مشاهدة ، على ما يشاهدون من تجليات كل من الصفتين الجمالية والجلالية . فصفات الجلال تفنيهم وصفات الجمال تبقيهم، فهم متقلبون من مشاهدة الجمال إلى مشاهدة الجلال ومن مشاهدة الجلال إلى مشاهدة الجمال.
ثالثها مرتبة خاص الخاص ؛ أحبوه بما أبرز لهم من معاني الصفات الكائنة في الذات وبما أظهر لهم من أسرار الذات المتصلة بالصفات، وذلك لأنه سبحانه تجلى بكمال التجلي بل بأكمل التجلي بصفة العظمة الكمالية الجامعة للصفات الجمالية والجلالية، فتحققوا بحقيقة الفناء في مقام البقاء، فهم ثابتون في الفناء عن أوصافهم ونعوتهم وذواتهم باقون بأوصاف الحق سبحانه وتعالى، وبنعوته القدسية المعظمة، حائرون في مشاهدة الجمال في الجلال ، والجلال في الجمال ، قائمون في مقام الكمال.
والحب الإلهي وراء حب العقلاء من الإنس والجن والملك، فإنه صفة قديمة قائمة بذات الله وصفته عين الذات، فهي قائمة بنفسها، وجمال الذات مطلقاً موجود في كل صفة من الصفات الجمالية والجلالية لعموم الذات إياها. فمن أحب جمال الذات فعلامته أن يستوي عنده جمال الصفات المتقابلة من الإيتاء والنزع والضر والنفع والإعزاز والإذلال، حتى الحب والقلا والوصل والقطع والتقريب والتبعيد وهذه المحبة ثابتة ثبوت الجمال لا يتطرق إليها الزوال. وأدنى منه حب الجمال المقيد الموجود في بعض الصفات وعلامة من يحبه أن يؤثر شطراً من الصفات كالإيتاء والنفع والإعزاز والحب والوصل والاقتراب على أضدادها مطلقاً، لا باعتبار وصول آثارها إليه بل لأنها محبوبة عنده في الأصل. وجمال الأفعال أكثر تقييداً منه وعلامة من يحبه أن يؤثرها باعتبار وصول آثارها إليه، وهذان المحبان قد يتغير حبهما بتغير محبوبهما ، فيبدو لها لائح الحب ويزول لما يتعاقب طوالع الصفات عليهما من البزوغ والأفول ـ فتارة يطمئن قلبهما إلى شطر من الصفات ، وتارة يشمئز طبعهما عن شطر آخر.