من عرف نفسه عرف ربه - سيدي أحمد بن عجيبة

قال سيدي أحمد بن عجيبة:

الصورة الآدمية طوت من جهة حسها جميع الكائنات من عرشها إلى فرشها، ومن جهة معناها جميع المعاني والحقائق الوجودية، فهي جامعة الأسرار الكائنات حسّاً ومعنى، وفي ذلك يقول الجيلاني رضي الله عنه في عينيته:

ونفسك تحوي بالحقيقة كل ما       أشرت بجدّ القول ما أنا خادع

وقد قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه:

يا تائهاً في مهمه عن سرّه         أنظر تجد فيك الوجود بأسره

أنت الكمال طريقة وحقيقة          يا جامعاً سرّ الإله بأسره

وما شرفت الصورة الآدمية إلا بالروح لأنها قطعة من الروح الأعظم الذي انفصل أن تجلى من السر الأكبر وهو بحر الألوهية. وقد طوى الحق تعالى في هذه الصورة الآدمية جميع الأشكال، هذا من جهة حسّها الناسوتي، وأما من جهة معناها اللاهوتي فلا نهاية لها، لأنها متصلة ببحر الجبروت الذي لا نهاية له، لأن المتجلي بها لا نهاية له، والبعض هو الكل، بسرّها الباطني قد أحاط بالأشياء كلها، وهو خارج عن دائرة الأكوان، لم يسعه عرش ولا كرسي ولا أرض ولا سماء، وإن كانت من جهة الجسم الأشياء مُحيطة بها، فمن جهة الروح المتصلة ببحر المحيط الجبروتي لم يسعها. قال في الحكم: "وسعك الكون من حيث جثمانيتك، ولم يسعك من حيث ثبوت روحانيتك".

فلو زال عن النفس وصفها الدّني كالكبر والحسد وحب الدنيا والرضا عن النفس لزالت حجبها الوهمية، ولأشرقت عليها شموس العرفان بنور معرفة العيان، فتضيء له سائر الأكوان. قال في التنوير: "فلو ارتفع حجاب الوهم لواقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطى وجود الأكوان"، وفي الحكم: "أنت مع الأكوان ما لم تشهد المُكوّن، فإذا شهدته كانت الأكوان معك".

ولو انكشف الحجاب أيضاً عن القلب لدرى أي علم سر المعنى في كل مظهر من مظاهر الوجود، ولبدا له وجه السر في كل وجهة من وجوه التجليات، فيرى الله في كل شيء ومع كل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء، قال بعضهم: "ما رأيت شيئاً إلا رأيتُ الله فيه".

قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: في بعض كتب الله المنزلة على أنبيائه: من أطاعني في كل شيء بهجرانه لكل شيء أطعتُه في كل شيء بأن أتجلى له دون كل شيء حتى يراني أقرب من كل شيء. هذا طريق أولى وهي طريق السالكين، وطريق أخرى كبيرة: من أطاعني في كل شيء بإقباله علي في كل شيء لحسن إرادة مولاه في كل شيء أطعته في كل شيء بأن أتجلى له في كل شيء حتى يراني كأنني كل شيء. فالأول مقام الفناء، والثاني مقام البقاء. ولو انكشف الحجاب أيضاً عن العبد لأيقن فؤاده بذات الحقيقة لشهودها عياناً ذوقاً وأنها واحدة لا اثنينية معها ولا غيرية، بل الوجود كله ذات واحدة وبحر متصل، كما قال القائل:

هذا الوجود وإن تعدّد ظاهراً      وحياتكم ما فيه إلا أنتم

فمن عرف هذا كان عارفاً بالله قد بدى سره جهرة، مقتبساً من سر السر وهو بحر الجبروت الأعظم، فيكون خليفة الله في أرضه، فتكون الأشياء عند أمره ونهيه، كما في  الحديث: "من أطاع الله أطاعه كل شيء، ومن خاف الله خاف منه كل شيء" الخ.