من عرف نفسه عرف ربه - سيدي محمد بن سليمان المستغانمي

قال سيدي محمد بن سليمان المستغانمي:

قال عليه الصلاة والسلام: "من عرف نفسه فقد عرف ربه"، والمراد بـالنفس الحقيقة الإنسانية التي هي مجموع الروح والجسد، على أن الروح والجسد شيء واحد في عالم الجمع، وليس الفرق بينهما إلا كالفرق بين الثلجة ومائها، وهما شيئان في عالم التفصيل العقلي: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}، فمن باب الإشارة: سماوات الأرواح وأرض الأشباح كانتا شيئا واحدًا في عالم الجمع ففتقناهما بتفصيل حكمتنا في عالم الفرق .

وذلك أن الحقيقة الإنسانية مرتبة برزخية ذات وجهين: وجه ينظر إلى عالم الأمر وتسمّى فيه روحًا ، ووجه ينظر إلى عالم الخلق وتسمى فيه جسما ، فالعارف صاحب الكشف الرباني يرى الآن بالعين الباطنة السموات والأرض وما بينهما وما فوقهما وتحتهما شيئا واحدًا ذاتا رتقًا، ويراهما بالعين الظاهرة تفاصيل لا نهاية لها، لا يحجبه الفتق عن الرتق ولا الرتق عن الفتق.

كما أنه يرى روحه وجسمه بالعين الباطنة رتقا وبالعين الظاهرة فتقًا، وهكذا رؤيته في جميع الأرواح والأجسام، فإن جميع الأرواح هي وجوه الحقيقة الإنسانية الكلية في عالم الملكوت وجميع الأجسام وجوه تلك الحقيقة أيضا في عالم الملك.

كما أنه يرى عالم القدم الذي هو الوجه الباطن من الوجود المطلق وعالم الحدوث الذي هو الوجه الظاهر منه أيضا حضرة واحدة من حيث الحضرة الأحدية، ويراهما حضرتين إثنين من حيث الحضرة الواحدية الفرقية، لا يحجبه الجمع عن الفرق ولا الفرق عن الجمعز

وهو المسمّى عند القوم بالجمع بين الضدين وبالجمع بين الضدين يسمّى العارف كاملا لإحاطته بالأطراف. قيل لأبي سعيد الخراز: "بم عرفت الله؟" قال: بجمعه بين الضدين، والمراد بالضدين كل أمرين لا يقبل العقل اجتماعهما، كالوجود والعدم والحدوث والقدم والنقص العقلي والكمال العقلي، ولذلك قالوا: "لا يطيق العقل على حمل نور المعرفة بالله إلا إذا اتسع لحمل المحال".

وليس حضرة الحدوث في بصائر العارفين إلا حضرة التنزل الإلهي كما أنّ حضرة القدم حضرة التعالي. والتنزل والتعالي مرتبتان للوجود المطلق فإن من أسمائه تعالى المتعالي وفي الحديث النبوي: "ينزل ربنا في الثلث الأخير من كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فاغفر له؟". وميدان هذا التنزل واسع الأطراف ، وهو محل رسوخ الأقدام.

والتنزل صفة المتنزل كالقيام صفة للقائم، والصفة عين الموصوف حقيقة وغير الموصوف حكمة، وقد تقدم أن العارف له عينان ينظر بهما دائما خصوصا، والعارف عين هذا التنزل إذ يكون نائباً وخليفة عن الحق في مقام الصحو الفرقي في جميع ما يبرز منه من الكلام، فإنّه لا متكلم في الحقيقة إلا هو.