قال الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي في محاضرة الأبرار:
من وقائع بعض الفقراء ما حدثنا عبد الله المروزي، قال : قال لي بعض الصالحين : رأيت في الواقعة أبا مدين وخلقاً كثيراً من أهل التصوّف، فقالوا لأبي مدين: زدنا من الغذاء الباقي. فقال: التوحيد هو الأصل وإليه الطريق، وهو القطب وعليه التخليق، وهو تاج العارفين و به سادوا، وبأخلاقه تخلّقوا وله انقادوا، هو بهم بر وصول، منه البداية وإليه الوصول، نور قلوبهم بالحكمة والإيمان، وشرح صدورهم فتخلقوا بالقرآن، ففهموا معانيه، وبان لهم المراد فدامت فكرتهم فيه فمنعهم السهاد، وما عرّجوا على أهل ولا أولاد، ولم يشركوا بعبادة ربهم أحدا.
هو الضياء بمشكاة قلب العارف عنه ينطق وبه يكاشف، ولم يلتفت إلى ما سواه، ولم يدخر سوى مولاه، وهو حياته ونشوره، وبه أشرقت شمسه ونوره، يمده بدقائق المعاني، فيميز بين الباقي منه والفاني، فيعبر عنه بمعانٍ روحانية، تقصر عن إدراكها الصفات البشرية، ويعيها من هو بالتوحيد حي ذو عيان، ويعجز عنها من رضي بنعيم الجنان .
فالعارف لذته ذكره مولاه، وهو كليته والظاهر بعبادته، ومفصحه بالعلم وهاديه لبيانه، أمد سره من ره ، فأنطق لسانه بالحكمة فجذب الخلق إليه، وهدى به الأمة، فكشف له الغطاء عن أسرار التوحيد وتجلى لقلبه من هو أقرب إليه من حبل الوريد، فتألفت متفرقاته ففني عن رسومه، وکاشفه به وشرفه بعلومه، فاهتزت أرضه ونبع ماؤه فوسعه قلبه وما وسعته أرضه ولا سماؤه، هكذا جاء في الخبر عن سيد البشر.
هو مأوى العارف، وهو الأمل. وقد صحّت له محبته في الأزل، فألبسه التقوى، وزيّنه بالتجريد، وأقامه للعيان، وأفناه في التوحيد. سقاه شراباً رويّاً، وغذاه بلبان اللب، واتصل بالمحل الخالص من اللقاء والقرب.