قال الشيخ مصطفى البكري في كتاب العرائس القدسية:
إذا لم تخرق من نفسك العادات، وتمزق منها ثياب الإرادات، لا تدرك مذاق السادات المرتقين منابر السيادات. ولا تظن أن مجرد الذكر والأوراد والعبادات التي صارت من جملة العادات تكفي في المجاهدات والمكابدات. ومن هنا قال بما معناه بعض السادات: إذا صارت العبادة عادة لم تفدك إفادة موجبة للترقي في درج السعادة. وسبب ذلك دخول النفس فيها؛ لأنها صارت من مألوفاتها، حتى إذا تركها صاحبها تطلبها منه ولم ترض إلا بقراءتها عليه. وعلامة حصول ثمرة الأوراد كثرة الواردات؛ فمن لا ورد له لا وارد له، ومن لا واردات له لا ثمرة عنده، ومن لا ثمرة عنده لأوراده لا غذاء فيها لروحه، فهو كمن يتغذى بالسراب يظنه الشراب، فلا يغنيه من ظمأ.
قال سيدي أبو الحسن تاج العارفين البكري رضي الله: اعلم أنه ليس الحظ من المريد كثرة الصوم ونحو ذلك، بل محق نفسه وإزالة أوصافه والفناء عن بشريته، وجماع ما تنال به ذلك هضم النفس، واعتقاد أن لا فضل لك ولا حق لك على أحد، ولا تظن أنك خيرٌ من أحد البتة، وإذا كبرت عليك نفسك فراجع أستاذك ليهذبها ويأمرك بما يفرج عليك، وامتثل أمره ولو بتمزيق وتخريق للعادات، وإياك من مخالفته في ذلك فهذا باب الكمال الأعظم.
وقال ولده سيدي محمد: إن للنفس تجليّاً بمقتضى الطبيعة، وآخر بمقتضى الحقيقة، فالأول اعتبارات عالم الخلق، والثاني أطوار عالم الأمر، وبينهما برزخ يقضى عليه بأقرب طرفهما إليه. والعارف المحقق من من الله عليه، فأتقن الطرفين وحقق معرفة البرزخ في البين إلى أن تلج في بحر الطمس من عالم النفس بالكلية حتى تكون معه في حكم الأجنبية. وإنما ينال العبد ما ينال بقدم العزم والتطهير من حدث الوهم بماء اليقين المطلق من إضافات الاعتبارات. وقد يحصل الكرامات والحال أنه لم يرتق بعد عن حضيض سجّين نفسه إلى منتهى عليين فياض قدسه، وإنما هو بعد من وراء حجاب وستر مسدلا ونقاب، فمهما كان أقرب إلى الطرف الخلقي إلى أن يتجلى عليه سلطان الأمر من مطلع شمس الأحدية؛ فعند ذلك يؤذن له بالوصول؛ فإن العبد مهما سلك بنفسه ولو هي في أعدل أحوالها غايته أن يصل إلى خلوصها من أوحالها، فعند ذلك ربما أوحى لها إلهاماً: "أقبلي إلي بي"، فمهما حصل لها في هذا المقام فهو الحق الذي لا يلتبس ولا يحتاج صاحبها إلى سؤال عن وقائعه؛ إذ معه منه فيه معلم حق وقائد صدق.