العبرة والعبور

   إذا عرف الإنسان غاية وجوده في هذه الحياة الدنيا فهي العبرة، وحينها يبدأ بالعبور إليها، وفي تفسير ذلك نقول : إن السعادة والاستغراق فيها على التأبيد والخلود هي مطلب ومقصد وهدف وغاية كل البشر، ولأن الإنسان مركب من جسد ونفس وعقل وقلب وروح وسر،  تنوعت سعادته بحسب هذه القوى التي تركب منها وتوجه بكليته اليها، فهناك سعادة حسية آنية لا تدوم إلا بقدر تلبس الإنسان بها، وهي المتعلقة بالشهوات المادية المعاشة في عالم الملك أو الشهادة.

   وهناك السعادة العقلية التي تدوم بقدر استحضارها والتفكر بها، وهذان النوعان من السعادة ينقطعان بمجرد مغادرة الإنسان لهذه الحياة الدنيا الخيالية السرابية الفانية، والانتقال إلى الحياة الحقيقية الأبدية في الآخرة.

   أما النوع الثالث من أنواع السعادة فهو السعادة الروحية الملكوتية والسرية الجبروتية التي لا تفارق الإنسان وتنتقل معه في حياته الأبدية الخالدة، وهي المتوقفة على معرفة الله الرب الخالق من خلال النفوذ بالبصيرة إلى باطن الآثار الكونية التي هي مرآة الإنسان الكبير والنفس البشرية المخلوقة على صورة الرحمن مصداقا لقوله تعالى في القرآن الكريم { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } ومصداقا لقوله تعالى { إني جاعل في الأرض خليفة } ومصداقا لقول النبي الخاتم والخليفة الحقيقي في أرض نفسه وملكوت قلبه وجبروت روحه : ”إن الله خلق آدم على صورته" وقوله صلى الله عليه وسلم : ” من عرف نفسه عرف ربه".

   وبما أن الموجودات ثلاثة : الله والكون والإنسان، ولأن العوالم الوجودية ثلاثة : الملك والملكوت والجبروت، خلق الله الإنسان مقابلا بما فيه من حس ومعنى وحقيقة أي : جسد وقلب وروح لهذه العوالم الثلاثة، وجاء الدين الكامل المتضمن لجميع الكتب الإلهية المشار إليه بقوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} منقسما إلى ثلاثة أقسام: الإسلام والإيمان والإحسان، أي الشريعة والطريقة والحقيقة، فالشريعة للجسد والعقل، والطريقة للنفس والقلب، والحقيقة للروح والسر.
    فالإسلام عبادة ، والإيمان قصد وتوجه، والإحسان شهود وعيان، ولذلك انقسم الناس في التوحيد الى إيمان تقليد، وإلى إيمان دليل وبرهان، وإلى إيمان شهود وعيان. 
   
فالإسلام لعالم الملك والشهادة، ويتضمن النظر والأخذ بالأسباب ويسمى عالم الحكمة، والإيمان لعالم الملكوت ويتضمن البصيرة والحضور مع عالم اللطائف والمثال ويسمى عالم البرزخ، والإحسان لعالم الجبروت، ويتضمن حضور الروح والسر مع التجليات الإلهية ويسمى عالم القدرة.

   فالانسان هو الوحيد الجامع لهذه العوالم الثلاثة لذلك كان المجلى الكامل والمرآة الكاملة لظهور أنوار اسم الله الظاهر من حيث تجليات الأفعال والأسماء والصفات وأنوارتجليات الذات الإلهية، ولذلك كان الخليفة في الأرض المخلوق على صورة الرحمن.

    فالحق تعالى في عين تجليه في الآفاق الكونية والأنفس البشرية من حيث اسمه الظاهر مصداقا لقوله تعالى {وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة} هو منزه عنها بمقتضى قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}، وبمقتضى اسمه الباطن المشار إليه بقوله تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن}، هو باطن في عين ظهوره وظاهر في عين بطونه، وهو بعيد في عين قربه، وقريب في عين بعده.

   وكل إنسان إذا تحقق بما فيه من كمالات بالقوة يصير إنسانا كاملا بالفعل، موحدا عارفا بربه الذي كان ولم يكن شي غيره وهو الآن على ما عليه كان، فهو مطلق وباطن بذاته، ومتجليا وظاهرا بأسمائه وصفاته، وفي كل يوم هو في شأن من حيث تجليات أفعاله وصفاته مصداقا لقوله تعالى { كل يوم هو في شأن }   
   ويقول الحق تعالى مبينا وجوده الحقيقي الممد لكلمات علمه الظاهرة به {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}، ويقول تعالى: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا}، ويقول:{كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}، ويقول: {فأينما تولوا فثم وجه الله}، ويقول: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم}، ويقول: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}، ويقول أيضاً: {وهو معكم أينما كنتم}.
   وهذه المعية هي المشار إليها بقوله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، فبها وبقيوميته ظهرت وثبتت الأشياء، وبتجليات ذاته انمحت وبطنت، وذلك لأنه إذا تجلى القديم تلاشى الحادث وبقي القديم، مصداقا لقوله تعالي: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر  موسى صعقا}.
   ويقول الحق تعالى في الحديث القدسي مبينا الإسلام  والإيمان والإحسان : ”عبدي مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف تمرض وأنت رب العالمين؟ قال: مرض عبدي فلان فلم تعده فلو عدته لوجدتني عنده"، ويقول :”من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولإن سألني لأعطينه ولإن استعاذني لأعيذنه".

   وكخلاصة لما تقدم نقول : إن الشريعة أو الإسلام لظاهر الإنسان والأكوان، وهما مجلى تجليات الأفعال الإلهية المسمى بعالم الملك، وينسب فيه الفعل للأكوان الآفاقية والأنفس البشرية.

    وإن الطريقة أو الإيمان هما لعالم تجليات الأسماء والصفات الإلهية المسمى بالملكوت الذي وسعه قلب العبد المؤمن مصداقا للحديث القدسي : "ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن".

    وإن الحقيقة أو الإحسان هما لتجليات الجبروت الذاتي وهو الروح والسر في كل إنسان  على العموم وفي الإنسان الكامل على الخصوص، العارف بالله والموحد توحيد شهود وعيان، بما فيه من عين اليقين وحق اليقين وحقيقة اليقين، وهذه هي السعادة الحقيقة الخالدة المستحقة للعبرة والعبور.



بقلم الفقير إلى الله تعالى والغني به عمن سواه الشيخ الدكتور عاصم الكيالي