شرح الحكمة العطائية التاسعة عشرة من كتاب اللطائف الإلهية

الحكمة التاسعة عشرة:
«لا يخاف عليك أن تلتبس الطّرق عليك، و إنّما يخاف عليك من غلبة الهوى عليك» .
شرح الحكمة:
هذه الحكمة تتحدث عن أمرين: الأول عدم الخوف على المسلم من خفاء الطرق الموصلة له إلى مولاه عزّ و جل، و الثاني الخوف على السائر إلى اللّه تعالى من أن يتبع هواه. و قبل الشروع في شرح هذه الحكمة لا بد من تفسير معنى الهوى لأن فهم معناه يسهل علينا فهمها.
الهوى: مصدر هواه إذا أحبه و اشتهاه و جمعه الأهواء، ثم سمي به المهوي المشتهى محمودا كان أو مذموما، ثم غلب على غير المحمود، فيطلق على من زاغ عن طريقة أهل السنة و الجماعة و كان من أهل القبلة فيقال: فلان اتبع هواه.
و عرّف الهوى أيضا: بأنه الميل إلى الشهوات و المستلذات من غير داعية الشرع، و بأنه ميل النفس إلى ما يلائمها من الشهوات، و إعراضها عما ينافرها، و قد يطلق الهوى و يراد به مطلق الميل و المحبة ليشتمل على الميل للحق و غيره، و قال الشعبيّ رحمه اللّه تعالى و هو من التابعين: إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه. 73
و بعد بيان معنى الهوى، أبدأ بشرح الحكمة فأقول: إنه لا يخاف على المسلم أن تلتبس عليه الطرق التي توصله إلى اللّه تعالى و رضوانه، لأن اللّه تعالى قال: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً [المائدة:3]. و قال النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا كتاب الله و سنتي» و قال صلى اللّه عليه و آله و سلم أيضا:
«تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك» .
فبما أن طريق الهدى واضح و هو كتاب اللّه تعالى و سنة نبيه و من اتبعهما لن يضل أبدا، لم يبق إلا أن يخاف على المسلم أن يغلبه هواه فيتبعه فيضل عن الصراط المستقيم، و ضلاله من وجهين: إما أن هواه سيدفعه إلى الانغماس في شهوات الدنيا و مستلذاتها فتفسد نفسه و يقسو قلبه و يسوء عمله، و إما أن يدفعه إلى البدع و الاعتقادات الباطلة فيزيغ عقله و يضعف إيمانه و يتلاشى فيخسر آخرته التي فيها حياته الأبدية. قال اللّه تعالى: وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوٰائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:119]، و قال اللّه تعالى: وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللّٰهِ [القصص:50]، و قال اللّه تعالى: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللّٰهُ عَلىٰ عِلْمٍ [الجاثية:23]قال سيدنا علي رضي اللّه تعالى عنه و كرّم وجهه: «أخاف عليكم اثنين: اتباع الهوى و طول الأمل، فإن اتباع الهوى يصد عن الحق و طول الأمل ينسي الآخرة» و قال الحسن البصري و هو من كبار التابعين: «أفضل الجهاد، جهاد الهوى» .
إن اتباع الهوى يؤدي إلى فساد الفرد و المجتمع بل و العالم مصداقا لقوله تعالى:
وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوٰاءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ [المؤمنون:71].
فعليك أخي المسلم أن تخالف هواك و تجعله يسير تبعا لما جاء به سيدنا محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم لتفوز بجنة ربك، قال صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» و قال اللّه تعالى: وَ أَمّٰا مَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوىٰ(40) فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوىٰ(41) [النّازعات: الآيتان 40،41].