شرح الحكمة العطائية التاسعة والعشرين من كتاب اللطائف الإلهية

الحكمة التاسعة و العشرون: 
«جعلك في العالم المتوسّط بين ملكه و ملكوته ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته، و أنّك جوهرة تنطوي عليك أصداف مكوّناته» .
شرح الحكمة:
قبل البدء في شرح الحكمة أوضح بعض ألفاظها ليسهل علينا فهم معناها فأقول: جعلك (أي اللّه تعالى أيها الإنسان) في العالم المتوسط (أي بما أن العوالم كثيرة، منها ما هو حسي ملكي، و منها ما هو غيبي ملكوتي، بينت الحكمة أن اللّه تعالى جعل الإنسان في العالم المتوسط) بين ملكه (أي عالم الشهادة) و ملكوته (أي عالم المعاني) ليعلمك (أي ليخبرك اللّه تعالى) جلالة قدرك (أي مكانتك عند اللّه تعالى و) بين مخلوقاته، و أنك جوهرة تنطوي عليك أصداف مكوناته (أي أنت أيها الإنسان الجوهرة المقصودة مما هو موجود داخل أصداف هذه المخلوقات) .
و الآن أبدأ في الشرح فأقول: قال اللّه تعالى: *وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنٰاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ فَضَّلْنٰاهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنٰا تَفْضِيلاً (70) [الإسراء:70]إن هذه الآية الكريمة تشير إلى تكريم اللّه تعالى للإنسان و تفضيله على كثير ممن خلق، و لبيان هذا التكريم و التفضيل أخبرنا اللّه تعالى في كتابه الكريم أنه خلق الإنسان بيديه في أحسن تقويم، و نفخ فيه من روحه، و أسجد له ملائكته عليهم السلام، و سخر له السماوات و الأرض، قال اللّه تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) [التّين:4]و قال تعالى: قٰالَ يٰا إِبْلِيسُ مٰا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعٰالِينَ (75) قٰالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نٰارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) [ص:75،76]و قال تعالى: فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ (29) [الحجر:29]و قال تعالى: وَ سَخَّرَ لَكُمْ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية:
13]و زيادة على ما تقدم أخبر النبي صلى اللّه عليه و سلم:
«إن اللّه خلق آدم على صورته» (رواه مسلم) أي الصورة المعنوية من حيث إن اللّه تعالى موجود و حي و عليم و مريد و قادر و سميع و بصير و متكلم، و الإنسان كذلك يتكلم و يبصر و يسمع و يريد و يقدر و يعلم و هو حي و موجود، فهو بصفاته الحادثة هذه يتعرف على صفات اللّه تعالى الأزلية، و في ذلك يقال: «من عرف نفسه عرف ربه» .
إن الإنسان يقابل عالم الشهادة بجسمه الطيني، و يقابل عالم المكوت بقلبه النوراني و روحه الأمري، لذلك كان الإنسان جامعا للحقائق الوجودية كلها المادية و المعنوية، و في ذلك يروى عن الإمام علي رضي اللّه تعالى عنه و كرّم وجهه قوله:
«أتحسب أنك جرم صغير و فيك انطوى العالم الأكبر» إن جمعية الإنسان للحقائق الخلقية الكونية و للحقائق الروحية الملكوتية هي التي رفعت قدره بين المخلوقات و أهلته ليكون خليفة اللّه تعالى في أرضه و حاملا لأمانته، قال اللّه تعالى: وَ إِذْ قٰالَ رَبُّكَ لِلْمَلاٰئِكَةِ إِنِّي جٰاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]و قال تعالى: إِنّٰا عَرَضْنَا اَلْأَمٰانَةَ عَلَى اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبٰالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهٰا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهٰا وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسٰانُ إِنَّهُ كٰانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) [الأحزاب:72].
هذا و إتماما للفائدة أذكر قصيدة للشيخ عبد الغني النابلسي رحمه اللّه تعالى من ديوانه «ديوان الحقائق و مجموع الرقائق» يبين فيها قدر الإنسان و حقيقته و مكانته عند اللّه تعالى و هي التالية:
أجهلت قدرك أيّها الإنسان أنت الجميع و بعضك الأكوان 
و النور و الظلمات أنت حقيقة و سوى كمالك كلّه نقصان
يكفيك أنّ الحقّ سمعك قد غدا و يدا و رجلا فيك و هو عيان 
و الكون أجمعه لأجلك خادم يسعى و أنت المالك السلطان 
فإذا انتبهت لبست ثوب سعادة و إذا غفلت فثوبك الخسران 
و لطيفك الجنّات أنت منعم فيها غدا و كثيفك النيران 
انزع ثيابك عنك و ابق بغيرها تعرف مقامك أيّها الإنسان 
أخي المسلم إن مقصود الحكمة أن تعرف قدرك بين الأكوان، ليكون ذلك حافزا لك على إخلاصك في عبوديتك للّه تعالى، فتحمل أمانة استخلافه لك في الأرض، و ترفع همتك عن كل ما سواه و تقبل عليه تعالى بكليتك أثناء تطبيقك للدين الحنيف.