شرح الحكمة العطائية الثالثة والعشرين من كتاب اللطائف الإلهية

الحكمة الثالثة و العشرون:
«استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيّتك، دليل على عدم صدقك في عبوديّتك.
غيّب نظر الخلق إليك بنظر اللّه إليك، وغب عن إقبالهم عليك بشهود إقباله عليك» .
شرح الحكمة:
إن هذه الحكمة تشتمل على أمرين: الأول أحد أمراض النفس و هو الرياء و عبّر عنه بقوله: «استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك» أي: بكرامتك عند اللّه تعالى لما خصك اللّه به من صالح الأعمال «دليل على عدم صدقك في عبوديتك» ، أي: و هذا يدل على عدم صدق من كان هذا حاله في عبوديته للّه تعالى لأن الصدق في العبودية يتطلب الإخلاص في العمل للّه تعالى بدليل قوله تعالى:
وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ حُنَفٰاءَ [البيّنة:5].
و الرياء هو العمل من أجل الناس طلبا للمنزلة عندهم، قال اللّه تعالى: يُرٰاؤُنَ اَلنّٰاسَ وَ لاٰ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ إِلاّٰ قَلِيلاً [النّساء:142]و قال صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«قال اللّه تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته و شركه» (رواه مسلم) .
قال أحمد بن أبي الحواري رحمه اللّه تعالى: «من أحبّ أن يعرف بشيء من الخير أو يذكر به فقد أشرك في عبادته، لأن من خدم على المحبة لا يحب أن يرى خدمته غير مخدومه» . أي من عبد اللّه حبا به و لم يعبده خوفا أو طمعا لا يحب أن يطلع على عمله غير محبوبه الذي عبده على المحبة و هو اللّه تعالى. و قال سهل بن عبد اللّه التستري رحمه اللّه تعالى: «من أحب أن يطلع الناس على عمله فهو مراء، و من أحب أن يطلع الناس على حاله فهو كذاب» . و قال إبراهيم بن أدهم رحمه اللّه تعالى: «ما صدق اللّه من أحب الشهرة» .
ذكر علماء التربية و السلوك علامات للمرائي تدل على ريائه منها: نشاطه في العبادة أمام الناس و كسله و قعوده عنها في خلوته. و منها: إتقانه للعبادة حيث يراه الناس و إسراعه فيها و تساهله بها حيث لا يراه أحد غير اللّه تعالى. و منها: تطلعه بقلبه توقير الناس له و تعظيمه. و منها الرغبة في مسارعتهم إلى قضاء حوائجه لما يرونه من صلاحه، حتى إنه إذا قصر أحدهم في حقه الذي يدّعيه لنفسه استنكر ذلك منهم.
و الأمر الثاني الذي اشتملت عليه هذه الحكمة هو الدواء الشافي من الرياء، و عبّر عنه بقوله: «غيب نظر الخلق إليك بنظر الحق إليك، وغب عن إقبالهم عليك بشهود إقباله عليك» أي، لا تنظر إلى نظر الخلق إليك، بأن تكون تشعر بنظرهم إليك و تهتم لذلك، بل غب عن نظرهم إليك، بالاكتفاء بنظر اللّه إليك بمراقبتك له و حضورك معه تعالى، و علمك بأنه عزّ و جل مطلع على ظاهرك و باطنك مصداقا لقوله تعالى: يَعْلَمُ خٰائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ وَ مٰا تُخْفِي اَلصُّدُورُ (19) [غافر:19]و قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصّلت:53].
و عليك أيضا أن تغيب عن إقبال الخلق عليك بالتبجيل و التعظيم، لأنهم لا يملكون لك ضرا و لا نفعا و لا رفعا و لا خفضا، و تكتفي بشهودك إقبال من ناصيتك بيده سبحانه و تعالى، الذي أسبغ عليك نعمه ظاهرة و باطنة، قال اللّه تعالى: وَ أَسْبَغَ 80
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظٰاهِرَةً وَ بٰاطِنَةً [لقمان:20]و قال النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم موضحا إقبال اللّه على العبد فيما يرويه عن ربه:
«قال اللّه عزّ و جل: إذا تقرب عبدي مني شبرا تقربت منه ذراعا، و إذا تقرب مني ذراعا، تقربت منه باعا، و إذا أتاني يمشي أتيته هرولة» (رواه مسلم) .