شرح الحكمة العطائية الثامنة عشرة من كتاب اللطائف الإلهية

الحكمة الثامنة عشرة:
«نعمتان ما خرج موجود عنهما، و لا بدّ لكلّ مكوّن منهما: نعمة الإيجاد، و نعمة الإمداد» .
شرح الحكمة:
هذه الحكمة تتحدث عن نعمة إيجاد المخلوقات من العدم، و عن نعمة إمدادها بالوجود، و قبل الشروع في بيان معناها العام، أشرح بعض الألفاظ الواردة فيها، ليسهل علينا بعد ذلك فهمها. إنّ المراد بكلمة (موجود) : ممكن الوجود و هو: ما يتصور في العقل وجوده و عدمه، و يسمى أيضا بالجائز، أي: يجوز في حقه الوجود و العدم، و يسمى أيضا بالحادث، أي: حدث بعد أن لم يكن. و المراد من قوله (مكوّن) أي: مخلوق من كون الشيء أي: أحدثه و أوجده. و هي تبين المراد من كلمة موجود الواردة سابقا، فخرج بها الموجود الواجب كذاته اللّه تعالى و صفاته.
أشرع في بيان معنى الحكمة العام فأقول: إن كل ما سوى اللّه تعالى من المخلوقات أصله العدم السابق على الوجود، قال اللّه تعالى: هَلْ أَتىٰ عَلَى اَلْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) [الإنسان:1]و قال اللّه تعالى: وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9]فأول نعمة أنعمها اللّه تعالى على الموجودات هي إخراجها من العدم إلى الوجود فهذه هي نعمة الإيجاد.
و أما النعمة الثانية فهي نعمة الإمداد و بيانها: أن الكائنات بعد وجودها من العدم دائمة الافتقار إلى غنى اللّه تعالى ليمدها بالبقاء، قال اللّه تعالى: *يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (15) [فاطر:15]و قال اللّه تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ يُمْسِكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاٰ [فاطر:41]فالعالم دائم الاحتياج إلى أن يمده اللّه تعالى بأسباب وجوده من المنافع التي تقتضي بقاء صورته و معناه، قال الشيخ أبو مدين رحمه اللّه تعالى: «الحق ممد و الوجود مستمد، و المادة من عين الجود فلو انقطعت المادة انهدم الوجود» . و كلامه هذا مستمد من قول اللّه تعالى: أَ فَعَيِينٰا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) [ق:15].
فعلى الإنسان أن يداوم على شكر اللّه تعالى الذي أنعم عليه حسا و معنى، قال اللّه تعالى: وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظٰاهِرَةً وَ بٰاطِنَةً [لقمان:20]و قال النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«أحبّوا اللّه لما يغذوكم به من نعمه» 1 و نعمه تعالى الظاهرة هي: كل ما فيه بقاء أجسادنا من غذاء و لباس و مسكن، و نعمه الباطنة هي: كل ما فيه تزكية نفوسنا و تطهير قلوبنا و تفتّح عقولنا و ترقّي أرواحنا. فالحمد للّه الذي حبّب إلينا الإيمان و زيّنه في قلوبنا، و كرّه إلينا الكفر و الفسوق و العصيان، قال اللّه تعالى: وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمٰانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ اَلْكُفْرَ وَ اَلْفُسُوقَ وَ اَلْعِصْيٰانَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلرّٰاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَ نِعْمَةً [الحجرات:7،8].