شرح الحكمة العطائية الثانية من كتاب اللطائف الإلهية

الحكمة الثانية:
«إرادتك التّجريد مع إقامة اللّه إيّاك في الأسباب من الشّهوة الخفيّة، و إرادتك الأسباب مع إقامة اللّه إيّاك في التّجريد انحطاط عن الهمّة العليّة» .
شرح الحكمة: 
التجريد في اللغة: الإزالة، تقول: جردت الثوب أزلته عني، و جردت الجلد: أزلت شعره.
هذا هو معنى التجريد في اللغة، و أما عند علماء التربية و السلوك فله معان عدة بحسب أقسامه الثلاثة:
القسم الأول: تجريد الظاهر و معناه: ترك الأسباب الدنيوية التي تشغل الجوارح عن طاعة اللّه تعالى.
القسم الثاني: التجريد الباطني و معناه: ترك العلائق النفسانية التي تشغل القلب عن الحضور مع اللّه تعالى.
و القسم الثالث: تجريد الظاهر و الباطن معا و يقال له التجريد الكامل و يشمل المعنيين.
فيكون معنى التجريد التفرغ للعبادة و المراقبة مع ترك الأسباب الدنيوية، كالعمل من أجل الكسب الحلال، و على هذا فيكون معنى الحكمة في شطرها الأول، أن الإنسان الذي أقامه اللّه تعالى في الأسباب أي: الأخذ في أسباب الرزق بأن يعمل و يجاهد سعيا وراء الكسب الحلال ليعيل نفسه و أهله و أولاده، عليه أن يحمد اللّه تعالى الذي وفقه و أقامه في هذه الحالة، لا أن يطلب من اللّه تعالى أن ينقله إلى مقام التجريد ليرتاح من عناء السعي وراء الكسب لما في ذلك من جهد و مشقة و تعب، مدعيا أن ذلك يشغله عن العبادة، لأن نفسه تريد من وراء هذا الطلب و هذا الادعاء أن ترتاح، فيكون مطلبها من الشهوة الخفية، و كون ذلك من الشهوة الخفية لعدم وقوف العبد مع مراد مولاه. و عليه أن يعلم أن ما هو فيه يعتبر عبادة و طاعة لقوله تعالى:
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا كَسَبْتُمْ [البقرة:٢۶٧]. و قوله تعالى: فَإِذٰا قُضِيَتِ اَلصَّلاٰةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللّٰهِ [الجمعة:10]. و لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم:
«ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده و إن نبي اللّه داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده».
أما معنى الحكمة في شطرها الثاني و هو: و إرادتك الأسباب مع إقامة اللّه إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية.
أي: من أقامه اللّه تعالى في خدمته، بأن تفرّغ لتعلم العلم و تعليمه، و انقطع بذلك عن كل ما يشغل الجوارح عن طاعة اللّه تعالى، و القلب عن الحضور مع اللّه مصدقا لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم:
«الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر اللّه و ما والاه و عالما و متعلما» .
و هو في حاله هذا عنده من الرزق ما يكفيه و يكفي عياله، أو كان يأتيه رزقه يوما بعد يوم، ثم أراد أن يترك مقام التجريد هذا فإنه يكون بذلك ضعيف الهمة، لأن مقام التجريد يحتاج إلى قوة كبيرة من اليقين و الصبر و جهاد النفس أثناء الذكر و العبادة و تحصيل العلوم الشرعية و دعوة الخلق و إرشادهم إلى الحق، قال تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعٰا إِلَى اَللّٰهِ وَ عَمِلَ صٰالِحاً وَ قٰالَ إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (٣٣) [فصّلت:٣٣].
و قال تعالى: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (104) [آل عمران:104]. قال الشيخ ابن عطاء اللّه في كتابه التنوير: «و الذي يقتضيه الحقّ منك أن تمكث حيث أقامك حتى يكون الحق تعالى هو الذي يتولى إخراجك كما تولى إدخالك، و جاء في شرح الحكم العطائية: «و اعلم أن المتسبب و المتجرد عاملان للّه إذ كل واحد منهما حصل له صدق التوجه إلى اللّه تعالى حتى قال بعضهم: مثل المتجرد و المتسبب كعبدين للملك، قال لأحدهما: اعمل و كل، و قال لآخر: الزم أنت حضرتي و أنا أقوم لك بقسمتي، و لكنّ صدق التوجه في المتجرد قد يكون أقوى لقلة عوائقه و قطع علائقه، و قد يكون العكس هو الصحيح و ذلك يختلف باختلاف الأشخاص.