شرح الحكمة العطائية الثلاثين من كتاب اللطائف الإلهية

الحكمة الثلاثون: 
«الخذلان كلّ الخذلان أن تتفرّغ من الشّواغل ثمّ لا تتوجّه إليه، و تقلّ عوائقك ثمّ لا ترحل إليه» .
شرح الحكمة:
 إن هذه الحكمة تشير إلى قول النبي صلى اللّه عليه و سلم:
«نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة و الفراغ» (رواه الإمام البخاري) . و بيان ذلك أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا مطالب بعبادة اللّه تعالى و معرفته و نشر دينه، إلا أن شواغل الدنيا الحسية، و علائق القلب المعنوية، و عوائق النفس و الهوى و الشيطان، و كذلك البلايا و الرزايا و الأمراض، كل ذلك يحول بينه و بين طريق الآخرة.
إن احتياجات الإنسان المادية و غرائزه الحيوانية تشده إلى الجري خلف الدنيا، ليشبع هذه الاحتياجات و الغرائز، فيملأ وقته بجمع المال، الذي يحقق له بقاء صورته، و يشبع شهواته، و يرضي نفسه و هواه، و يكون ذلك على حساب احتياجاته الروحية، التي هي أصل وجوده، و هذه الشواغل المادية تنمي عنده العوائق النفسية و الشيطانية. لأن الانغماس في الدنيا يفسد النفس و يقسي القلب و يحجب الروح، و يميل بالهوى.
فمن كان هذا حاله لا شك أنه سيغفل عن هدف وجوده، و يضل عن طاعة ربه و امتثال أوامره و اجتناب نواهيه.
فالإنسان العاقل هو الذي ينتهز فرصة تمتعه بنعمتي الصحة و الفراغ في الإقبال على عبادة اللّه تعالى، لكي لا يغبن في تجارته قال اللّه تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتٰابَ اَللّٰهِ وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ أَنْفَقُوا مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ سِرًّا وَ عَلاٰنِيَةً يَرْجُونَ تِجٰارَةً لَنْ تَبُورَ (29) [فاطر:29] قال الشيخ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري عند شرحه للحديث آنف الذكر: «و قال الطيبي: ضرب النبي صلى اللّه عليه و سلم للمكلّف مثلا بالتاجر الذي له رأس مال، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله و يلزم الصدق و الخدمة لئلا يغبن، فالصحة و الفراغ رأس المال، و ينبغي له أن يعامل اللّه بالإيمان، و مجاهدة النفس و عدو الدين، ليربح خيري الدنيا و الآخرة، و قريب منه قول اللّه تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىٰ تِجٰارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ [الصّف:10]و عليه أن يجتنب مطاوعة النفس و معاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح» .
و قال أيضا: «و قال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحا و لا يكون متفرغا لشغله، و قد يكون مستغنيا و لا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، و تمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، و فيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه و صحته في طاعة اللّه فهو المغبوط، و من استعملها في معصية اللّه فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل، و الصحة يعقبها السقم» .
فالخذلان كل الخذلان لمن تفرغت جوارحه من الشواغل الحسية الظاهرة و قلبه من العوائق المعنوية الباطنة، و لم يتوجه إلى مولاه بإخلاص العبودية له تعالى، بأن يقبل عليه بكليته، فلا يشغل عقله و قلبه بسواه تعالى. قال الشيخ عبد الكريم القشيري: «فراغ القلب من الأشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر عبد هذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى، و انجرّ في قياد الشهوات، شوّش اللّه عليه نعمة قلبه، و سلبه ما كان يجد من صفاء لبه» .