الله تعالى أقرب إلى الشيء من الشيء نفسه

قال صاحب كتاب شجون المسجون وفنون المفتون:

كما أن السراج يتبدل في كل طرفة عين لأنه قائم بالمادة النورانية، وكل طرفة منه غير الأخرى، كذلك تبدل الموجودات، وغير العارف يحسبها على حالها {بل هم في لبس من خلق جديد}.

والناظرون بعين العقل يرون للموجودات في ذواتها ترتيباً بعضها أقرب من بعض إلى الأول سبحانه، وهو واحد والموجودات منه كثيرة، وأما الناظرون بعين المعرفة فلا يرون للموجودات ترتيباً أصلاً، ولا يرون بعضها أقرب إليه تعالى من بعض، بل يرون هويته مع كل موجود، مساوقة له بنفس مساوقتها للتجلي الأول في نظر أهل العقل من غير فرق. وذلك أن أهل العقل نظروا من الخارج، وأهل المعرفة نظروا من الداخل.

واحذر أن تفهم من القول أن الأول سبحانه وجوده مساوق للكل أنه يلزم أن يكون شيء مساوقاً لوجوده، بل هو تعالى مع كل شيء وليس معه شيء، بل إن مساوقته لما لم يوجد عين مساوقته للموجود من دون فرق، وهنا يكل العقل عن الإدراك مع أنه تعالى مع كل شيء، وقبل كل شيء، فقبليته لا تتناهى مع كون يسلّم أنه لا شيء قبله ولا بعده ولا معه.

واعلم أن القبلية والبعدية إنما هي من حيث التجلي بالإيجاد، وما لم يعتبر هذا التجلي لا يقال قبل ولا بعد، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "كان الله ولم يكون معه شيء"، وقولهم: "وهو الآن على ما عليه كان"،فأزليته حاضرة مع أبديته، فلا موجود غيره، وسبْقُه للوجود الماضي كسبقه للوجود المستقبل من غير فرق، ونسبة أزليته إلى الأزمنة كلها نسبة واحدة.

وبهذا الاعتبار لزم أن يكون الله تعالى أقرب إلى الشي من نفس الشيء، لأنه تعالى متقدم عليه فهو أقرب منه إليه علماً كما أنه أسبق منه له وجوداً، فلما كان الشيء معدوماً، كان الشيء جاهلاً بإياه تقييداً والله تعالى عالماً به إحاطة. فكما أنه تعالى أقرب إلى الشيء من الشيء علماً، فهو كذلك أقرب إليه منه مطلقاً، أعني بكل وجهٍ أزلاً وأبداً، إذ البعدية والقبلية من حيث هو واحدة، وبنوره ظهر وجوده فكان لكل شيء نوراً باطناً، قابله نور ظاهر، فأظهر النور عين الشيء عن بطونه، ودل ظاهر الشيء على نوريته الباطنة.