قال سيدي محمد بن محمد بن أحمد الساحلي في بغية السالك:
اعلم أن الإخلاص ينبئ عن بداية توحيد الأفعال الذي هو ثاني مرتبة من مراتب التوحيد الذوقي ، فقد تقدم لنا أن تقسيم التوحيد ليس باعتبار حقيقته وماهيته، وإنما تقسيمه باعتبار ثمراته وأذواقه.
واعلم أن الله عز وجل حجب ذاته بصفاته، وحجب صفاته بأفعاله، وحجب أفعاله بما اشتملت عليه طباع الإنسان من الركون إلى المألوف والاستئناس بالعادة، فإذا تجرد الباطن عن الالتفات إلى المألوف الظاهري، انبلجت له مبادئ أسرار أفعال الله تعالى القائمة بصفاته، فتحلت النفس بموجب تلك المبادئ، فإذا تجرد الباطن عن الالتفات إلى أوهام الباطن الباقية أثرًا عن المألوف بما يقتضيه سر التنزيه، فاضت عليه أنوار كمالات توحيد الأفعال، فتحلت النفس بموجب تلك الكمالات، فإذا تجرد الباطن عن جميع الأكوان بما اقتضاه سر الإفراد، سطعت له بروق مبادئ أسرار توحيد صفات الله تعالى القائمة بذاته العلية، فاتصفت الروح بمقتضى تلك المبادئ، فإذا تجرد الروح عن أثر الأكوان الباقية تبعًا لمقتضى الإحسان، غمرته بحار أسرار كمالات توحيد الصفات، ثم هو بعد ذلك مستعد لما يرد عليه من معارف توحيد الذات.
وإذا تقرر هذا، وعلمت أن الذي يختص بمنزل الإخلاص من مراتب التوحيد هو مبادئ توحيد الأفعال، فلا ذكر أنسب له هنا من التهليل نفيًا وإثباتًا؛ لأن الإثبات والنفي بما اقتضياه لأول وهلة يهديان القلب إلى إثبات أفعال الله تعالى بنفي أفعال من سواه، حتى يرسخ ذلك المعنى في القلب ويثبت فيه، فيتحلى بموجبه تحلية لا ينفك عنها، فتجده لا يتأثر لشيء من أفعال الخلق، ولا يكترث بها، بخلاف ما يحصل من ذلك بمجرد العلم، فإن صاحبه لا يخلو عن التأثر الإساءة المسيء وإحسان المحسن.
والناس في هذا التأثر طبقات: أبعدهـم مـن الـحـق مـن ينسى المُسَبِّب بالأسباب، والغالب من سائر طبقاتهم الميل مع الأسباب، فمن قوي ميله ومن ضعف ميله. وأما ما يحصل عن الذوق المشار إليه، فلا يبقى معه نسيان ولا ميل، بل يرى الأفعال كلها من الله، وإن قام ظاهره في ذلك بما يقتضيه من الوظائف الشرعية، فباطنه ثابت على ما اقتضاه ذكره من نفي وإثبات.