الحضور مع الله تعالى في كل شيء - سيدي حسين بن طعمة البيتماني

قال الشيخ حسين بن طعمة البيتماني قدس سره في شرحه على كتاب التدبيرات الإلهية للشيخ الأكبر:

اعرف يا أخي بذوقك ووجدانك الكلام الإلهي الصادر من العالم على حسب اختلاف لغات الأجناس، إذ العالم أجناس ولكل جنس لغة أنطقه الله به كما قال تعالى: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}.

والمعنى انظر إلى الكلام الإلهي الصادر من الصور، إذ هم محل الخطاب لا من حيث الصور، فإن الله تعالى هو المتكلم في الحقيقة بألسن مخلوقاته، فما من شيء إلا هو ناطق به تعالى كما قال عز وجل: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ ، يَعْمَلُونَ} وهذا النطق الإلهي محله المخلوقات التي هي معلوماته تعالى، لأن الله عز وجل لا يتكلم إلا بمعلوماته إذ هم عرش استواء رحمانيته، فلا يظهر الخطاب إلا منهم لهم، فلهذا تراهم يخاطبون بعضهم بعضاً ويسمعون من بعضهم بعضاً، ويفيدون بعضهم بعضاً، وينفعون بعضهم بعضاً، ويضرون بعضهم بعضاً، وهو تعالى الضارّ النافع والمعطي المانع، وهو تعالى المتكلم لا هم، فإنهم من حيث هم لا يقدرون على شيء.

إذا سمعت يا أيها الإنسان النطق الإلهي، ورأيت صدور الفعل من أحد فاسمعه واشهده من الوجود الذي هو من وراء كل موجود على الإطلاق، وهو المحيط بكل شيء على التنزيه، الظاهر في مراتب أسمائه القائمة بآثار أعيانها من غير حلول ولا تقييد، كما قال شيخنا رضي الله عنه:

مراتب بالوجود صارَتْ     حقائق الــغــيــب والــعــيــان

وليس غير الوجودِ فيها       بظاهـر والـجـمـيـع فــان

وقال آخر:

وإن غردت قمريةٌ فوق أيكة     فإني منكُمُ لا مِنَ الطير سامعُ

وقال الجنيد قدّس الله سره: منذ ثلاثين سنة أكلم ربي ويكلمني والناس يظنون أني أكلمهم.

فالخطاب منه تعالى ومحله الصور المقدّرة الحسية والمعنوية . فإن نظرت إلى المحل وهي الصور المتكلمة مع بعضها بعضاً باللسان المخلوق والكلام المخلوق فقد حصرت فغاب عنك الوجود القديم لحضورك مع الموجود، وإن نظرت إلى المتكلم الحقيقي وهو الوجود الحق فقد أطلقت فغاب عنك الموجود الحادث لحضورك مع الوجود. ومراد المصنف قدّس الله سرّه أن تنظر النطق من غير محل الخطاب، أي يقطع النظر عن الصور حينئذ تجد الحق تعالى القيوم على كل شيء وهو المتكلم والفاعل لا غيره من غير شك.

وإذا كان الأمر كذلك فأنت حينئذ يا أيها المخلوق عدم صرف كلك ذاتاً وصفاتاً وأسماء وأفعالاً وأحكاماً، وليس لك وجود في نفسك أصلاً وإن كنت موجوداً بتقدير الله تعالى في صورة حي باعتبار قيومية الحق تعالى عليك بحياته وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وإرادته وكلامه، فقمت بذلك على صورة الرحمن، فإن الوجود له تعالى لا لك، إذ صورتك شيء والشيء في الحقيقة توجه إرادته تعالى وقدرته على ذلك المعدوم الصرف الثابت في القدم الكاشف عنه تعالى بعلمه في حضرة الأزل فافهم.