المعرفة بالله شهود الإطلاق والتقييد - الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي

قال الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي قدس سره في الفتوحات المكية:

يتعين على أهل الله أن يعرفوا الله تعالى ويشهدوه في كل صورة فلا يقومون في موطن إنكار، لأنه تعالى سار في الوجود فما أنكره إلا محدود، وأهل الله تابعون لمن هم له أهل فيجري عليهم حكمه، وحكمه تعالى عدم التقييد فله عموم الوجود، فلأهله عموم الشهود، فمن قيد وجوده قيد شهوده و ليس هو من أهل اللّٰه تعالى.

واعلم أن وجه اللّٰه، كما أخبرك هو عن نفسه، هو حيثما توليت، ولكن اللّه اختار لك ما لك في التوجه إليه سعادتك، ولكن في حال مخصوص وهي الصلاة، وأما سائر الأينيات فما جعل الله لك فيها هذا التقييد، فجمع لك بين التقييد و الإطلاق، كما جمع لنفسه بين التنزيه والتشبيه، فالحق عين العالم لأن العالم إنما قيامه بالوجود و ليس إلا لله، ولذلك ورد في الخبر الصحيح: "كنت سمعه وبصره" وهكذا جميع قواه وصفاته.

فلما كان العالم ظرفا لمن استوى عليه، ظهر بصورته. سُئل الجنيد عن المعرفة والعارف فقال: "لون الماء لون إنائه" فجعل الأثر للظرف في المظروف و ذلك لتعلم من عرفت، فتعلم أنك ما حكمت على معروفك إلا بك، فما عرفت سواك، فأي لون كان للإناء ظهر الماء للبصر بحسب لون الإناء.

فله تعالى التجلي في كل صورة من صور الأواني من حيث ألوانها فلم يتقيد في ذاته الماء ولكن هكذا تراه وكذلك تؤثر فيه أشكال الظروف التي يظهر فيها، وهو ماء فيها كلها، فإن كان الوعاء مربعاً طهر في صورة التربيع، أو مخمساً ظهر في صورة التخميس أو مستديراً ظهر في صورة الاستدارة لأن له السيلان فهو يسري في زوايا الأوعية ليظهر تشكلها، فهو الذي حمل الناظرين لسريانه إن يحكموا عليه بحكم الأوعية في اللون والشكل، فمن لم يره قط إلا في وعاء حكم عليه بحكم الوعاء، ومن رآه بسيطاً غير مركب علم أن ما ظهر فيه من الأشكال و الألوان إنما هو من أثر الأوعية، فهو في الأوعية كما هو في غير وعاء بحده وحقيقته، ولهذا ما زال عنه اسم الماء، فإنه يدل عليه بحكم المطابقة فهذه الأوعية له كالسبل في الأرض للسالك فيها فينسب السالك في كل سبيل منها إلى أنه طالب غاية ذلك السبيل الذي سلك عليه {فِي أَيِّ صُورَةٍ مٰا شٰاءَ رَكَّبَكَ} من صوره، فيكون هو الظاهر لا أنت لأن الظهور للصور لا للعين فالعين غيب أبداً والصور شهادة أبداً.

واعلم أن اللّه تعالى لما كان له مطلق الوجود، ولم يكن له تقييد مانع من تقييد، بل له التقييدات كلها، فهو مطلق التقييد، لا يحكم عليه تقييد دون تقييد، فافهم معنى نسبة الإطلاق إليه، ومن كان وجوده بهذه النسبة فله إطلاق النسب فليست نسبة به أولى من نسبة، فما كفر من كفر إلا بتخصيص النسب فافهم.