المعرفة بالله شهود الإطلاق والتقييد - سيدي أبو بكر البناني

قال سيدي أبو بكر البناني قدس سره في تفسير قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ}:

هذا تقريع وتوبيخ لمن التفت في سيره إلى صورة من صور وجوده الموجودة بحسب وهمه، والمراد: مثل الذين قصروا وجهتهم على صورة من صور الوجود وحصروا الوجود فيها وظهور الألوهية بها من حيث التفاتهم في سيرهم إليها وموالاتهم لها دون غيرها وحصرهم الأمر في عينها وقصدهم فيها مطالبهم بالتوجه إليها، مع أنه سبحانه وجوده عام في جميع أعيان الممكنات الحسية والمعنوية لا ينحصر في شيء دون شيء، فهو عين كل وجهة ومطلوب كل مأمول ومرغوب، لكن لو فتح الله بصيرة من هذا حاله ما كان له أن يتعشق إلى صورة نفسه التي طلبها وحصر الأمر فيها من حيث المادة العنصرية الطبيعية.

إذ صاحب هذا المشهد ما له تعشق إلا إلى نفسه الجزئية الموهومة لأنها هي التي تتحيّز فتقبل الجهة وحصر الوجهة، وأما حقيقته التي قام بها وجوده فهي لها الإطلاق التام فلا تقبل التقيد بوجهة ولا بمظهر ولا بحال، إذ التقييد بوجه من الوجوه أو بحال من الأحوال بنعت النظر إليه والاستحسان له إنما هو وصف المقيد الذي ضعفت قابليته واستعداداته عن شهود عين الجمع، فصار يسارق النظر إلى أحواله ويشيد بذلك بنيان وجوده، معتقداً من ضعف علمه أن ذلك ينجيه من حر ما هو فيه وهو عند التحقيق وشرح الحال {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بيتا} ينجيها من حرّ الوجود وبرده من حيث الوهم وقلة العلم والفهم.

أي مثل ما توهموه من قصر الألوهية على صور الوجود وركونهم إلى حصن ذلك من حيث الالتفات إليه والاعتماد عليه معتقدين إنه يحمي من لاذ به من حرّ البعد وبرد الصدود كمثل البيت الذي اتخذته العنكبوت من أجل وهمها الصادر عن ضعف نظرها معتقدة أن ذلك يدفع الحر والقر وهو عند أرباب العقول السليمة لا يغني عنها شيئاً.

كذلك أرباب الأهواء الذين اتخذوا أحوالهم إلهاً ووليّاً يعتمدون عليه من حيث الالتفات والاستحسان وما أضيف إلى ذلك من دعوى وجود الشريك حالاً وإقبالهم على عبوديته واعتقاد أن ذلك حصن ينجيهم من حرّ نفوسهم وبرد وجودهم، مثله في المعنى كمثل بيت العنكبوت التي اتخذته بوهمها القاصر وعقلها الفاتر وهم يعلمون من حيث العقل {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} من حيث العقل الكلي ولكن لا علم لهم بذلك لصولة النفس لأنهم لو علموا ما تقتضيه حقائق أعيان الممكنات من صرافة المعنى أيقنوا بنفي ما توهموه من الحصر، لكن لما أحاط بهم الوهم التفتوا إلى حقيقته العدمية فحصروا، المطلق والحق سبحانه يعلم أن حضرته منزهة عما اقتضته الأوهام، وأن ما شاهدوه غيراً هو في التحقيق عين، فالذي توجهتم إليه وعبدتموه بقصر الوجهة عليه وفاقاً للوهم ليس هو غيره بل هو عينه، إذ لا شريك له في وجوده وليس معه غيره حتى يصح أن يكون له شريكاً، بل ما ثم إلا وجود الحق اهتدى إليه أهل العناية وحجب عنه أهل الغواية فافهم.